10‏/12‏/2012

«عصفورية» بلا إدارة

واصف عواضة
جمهور المقاومة في لبنان في حالة غليان واحتقان. مردّ هذه الحالة سببان رئيسيان: الأول، حجم الإسفاف الذي يطال المقاومة وسيدها من بعض الشخصيات ذات القيمة الرفيعة أوالمتدنية سياسياً، والثاني، إحجام قيادة المقاومة عن مواجهة هذه الحملة والبرودة التي تلاقي فيها هذا الإسفاف.
في المجالس الخاصة كلام كثير في هذا المجال، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي عبر «الإنترنت» كلام أكثر وجدال يبلغ أحياناً حد الانفعال، لدرجة لا يجد معها أهل الحكمة مكاناً لهم أحياناً لتهدئة النفوس الثائرة. وفي النهاية ثمة من يحمد الله على ان على رأس هذه المقاومة رجلاً عاقلاً حكيماً، يعرف حدود الله جيداً، ويؤمن بأن الفتنة التي يستجديها الكثيرون في الداخل والخارج، مثلما فيها مقتل للمقاومة، فيها القضاء المبرم على البلد وأهله جميعاً.
والواقع أنه لم يعد خافياً على أحد حجم الأحقاد الذي يتنامى في صدور أبناء البلد، نتيجة الكلام العالي النبرة الذي تضج به المهرجانات والمسيرات والاعتصامات والشاشات، ويبلغ من الإسفاف مبلغاً غير مسبوق، في وقت ترزح الناس تحت أعباء الأزمات المعيشية والاجتماعية على خلافها، من دون أن يكلف معظم أهل السياسة أنفسهم عناء معالجة أو تخفيف هذه الأزمات. فالشحن الطائفي والمذهبي تعلو كلمته على أي كلام آخر، والشتائم تتصدر الحملات السياسية، وكأن ثمة مباراة وجوائز للشتّام الأفضل في لبنان. هذه الحالة وصفها الرئيس نبيه بري بـ«العصفورية»، (مستشفى الأمراض العصبية في لبنان). لكن «العصفورية» لها في العادة إدارة، فيما «عصفورية لبنان» تبدو من دون إدارة.
ثمة فريق في لبنان يبدو وكأنه أحرق مراكب العودة الى وطن واحد بجميع أبنائه، وذهب في رهانه على سقوط النظام السوري الى نقطة اللاعودة، وهو يمني النفس بإلغاء الفريق الآخر من دون هوادة، وفي اعتقاده ان تحقيق ذلك سيعيد الاستقرار الكامل والناجز الى لبنان، متناسياً أن التركيبة اللبنانية لا تُحرق ولا تُغرق في ظل النظام الطائفي الذي لا يستطيع فيه أحد إلغاء أحد، مهما علا كعبه أو وَطُؤ. ولو كان ذلك ممكناً لكان لبنان اليوم في يد فريق ملك أو يملك من القوة فائضاً عسكرياً وسياسياً وشعبياً مرجحاً، منذ عصر الحركة الوطنية حتى عصر المقاومة.
لقد شهد لبنان الكثير من الأحلام والمغامرات التي لم تؤد الى تغيير طبيعته السياسية. فقط كانت هذه المغامرات مدخلاً إلى حروب لم تبق ولم تذر. وإذا كان ثمة من ينشد التغيير، فإن هذا التغيير يصنعه وفاق اللبنانيين على أي لبنان يريدون، سواء سقط النظام السوري أم صمد. ويعرف اللبنانيون جيداً أن هذا النظام لم يستطع إلغاء فريق في لبنان لصالح فريق آخر، مثلما لم تستطع إسرائيل بجبروتها في احتلالين وخمس حروب، خلال ثلاثة عقود، أن تبدل من طبيعة لبنان. وعليه فإن النفخ في كور الفتنة لن يؤدي إلا إلى حرب جديدة ذاق اللبنانيون مرارتها في السابق من دون جدوى.
ثمة فرصة بعدُ للعقل والحكمة والخروج من «العصفورية السياسية» قبل ان يفلت الزمام. وليس سراً أن المقاومة وقيادتها وجمهورها على استعداد كامل لتسوية تاريخية، تشرك الجميع في إدارة البلد، شرطها الوحيد تحييد المقاومة في وجه إسرائيل كعدو أوحد عن طاولة البحث ضمن ضوابط منطقية. وبغير ذلك فإن الشحن والتحريض والإسفاف والشتائم ستحول «العصفورية السياسية» الى «عصفورية أمنية» تقتل شهوات السلطة وأوهامها من رؤوس الحالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحية الافتتاح