29‏/01‏/2011

رفيق الحريري و«ثورة الياسمين»



 
واصف عواضة
السفير - السبت 29 ك2  2011
يوم رفع الرئيس الراحل رفيق الحريري على مدخل السرايا الحكومية شعار «لو دامت لغيرك لما آلت اليك»، باقتراح من الصديق النائب نهاد المشنوق، ربما اراد ان يوجه رسالة الى كل الحكام، وفي طليعتهم رؤساء الوزراء، بأن البقاء لله وحده، وبأن تداول السلطة في لبنان شأن يميز هذا البلد عن غيره في المحيط العربي الواسع من شواطئ الاطلسي الى أقدام الخليج.
لو كان رفيق الحريري حيا اليوم وهو يشهد «ثورة الياسمين»والغضبة الشعبية على الحكام من تونس الى مصر والاردن واليمن، لكان تمنى ان يكون في صفوف المعارضة. وهوعندما لمس في العام 1998 ان الرئيس اميل لحود في بداية عهده، يضمر له ما لا يحمد عقباه ، فضّل الخروج من السلطة وتزعم المعارضة التي أوصلته بعد عامين على حصان ابيض الى السرايا الحكومية، مستفيدا من الاخطاء التي ارتكبها الحكم في ذلك الحين في حق البيت الحريري.
لقد غامر رفيق الحريري في ذلك الحين بالخروج من السلطة وهو في موقع الضعف، وراهن على اخطاء السلطة الحاكمة وعجزها عن تحقيق احلامها ونجح. وأذكر انه قبل اسبوع واحد من تسلم الرئيس لحود سلطاته الدستورية قال لي وللزميل معروف الداعوق في طائرته التي كانت تحمله الى طهران: «لن أقدم تشكيلة حكومية للرئيس لحود اذا تم تكليفي، وسوف اترك له حرية اختيار كل الوزراء». وعندما قلت له انك تسعى الى مشكل اجاب: «لقد حملت البلد على كتفيّ ست سنوات، فليحمله لحود على كتفيه من الآن وصاعدا وسأسعى جهدي لمساعدته». واضاف سائلا: «ما هو عدد الوزراء المتهمين بالفساد في حكومتي الحالية»؟ قلت «ليس أقل من ثلثها»، فاردف قائلا: لحود يريد حكومة نظيفة ووزراء يتمتعون بالشفافية، فهل يستطيع الاتيان بثلاثين وزيرا من هذا الطراز في ظل التركيبة اللبنانية المعقدة؟».
ربما كان رفيق الحريري يبالغ في تصوير الأمور. فبلد ليس فيه ثلاثون شخصية شفافة لحكومة نظيفة فليذهب الى الجحيم. لكن الحريري الأب فهم في ذلك الحين ان ست سنوات متواصلة في الحكم، كافية لهدم اعظم الحكام وأنبلهم،على قاعدة «نصف الناس مع الحاكم اذا عدل»، وان الظروف باتت تتطلب خروجه الى حين، واخلاء الساحة للآخرين لكي يخوضوا تجربتهم.
حبذا لو ان الرئيس سعد الحريري يستعيد تجربة والده الشهيرة، فيخرج برحابة صدر من سطوة الشعار الذي يأسره في هذه الايام عبر مقولة «أنا أو لا أحد»، خصوصا أنه في موقع اكثر قوة بكثير مما كان عليه والده مع بداية عهد الرئيس لحود، الا اذا كان خائفا من نجاح الرئيس نجيب ميقاتي في مهمته وهو ما نتمناه للرئيس المكلف، ويتمناه كل لبناني حريص على وطنه ومستقبل ابنائه، لأن الاشخاص زائلون، والبقاء لله والوطن.
لعل أهم ما يحتاجه سعد الحريري في هذه المرحلة هو فترة تأمل ومراجعة بعيدا عن الاصوات المنادية بالويل والثبور وعظائم الأمور من الذين ورطوه في طرابلس، وكادوا يورطون البلد في فتنة اين منها «حرب صفين» التي استحضرها بعضهم خبثا من اعماق التاريخ.

27‏/01‏/2011

حكومة للناس يا دولة الرئيس

واصف عواضة
عندما يختلي الرئيس نجيب ميقاتي بنفسه آخر الليل، ويستعرض القضايا والهموم التي تواجه حكومته العتيدة بعد تكليفه مهام تشكيلها، سوف يستهول بلا شك حجم المشاكل الذي يواجه هذه الحكومة، خاصة إرث السنوات الخمس المنصرمة التي أعقبت حكومته الاولى إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لا شك بأن ميقاتي كان يتمنى تولي رئاسة الحكومة في ظروف أفضل، وهو السياسي الوسطي المعتدل الدمث الذي تربطه علاقة طيبة بجميع القوى المحلية والخارجية من دون استثناء، ما عدا إسرائيل. لكن معدن الرجال تظهّره الملمات والصعوبات، والرئيس ميقاتي يمتلك من المرونة والليونة ما يؤهله لتذليل الممكن منها. وما من لبناني حريص على استقرار بلده، إلا ويتمنى النجاح للنجيب الذي تنكّب لهذه المهمة في أحلك الظروف.
ولعله من الظلم تحميل نجيب ميقاتي سلفاً الأعباء السياسية المترتبة على البلد، أو إلقاء الحمل عليه وحده، والتعامل معه على قاعدة «إذهب أنت وربك فقاتلا». بل ليس من حق أحد أن يحمّل ميقاتي وحده نتيجة الفشل السياسي اذا ما حصل لا سمح الله. لكن بصراحة مطلقة، ومن باب الحرص والمحبة، لن يسامح أحد نجيب ميقاتي اذا ما تجاهل هموم الناس ومشاكلهم الحياتية والمعيشية والاجتماعية والادارية وغرقت حكومته فقط في الملف السياسي الذي يبدو الرجاء فيه ضئيلا، نظراً لطبيعة النظام الذي بات لبنان ينوء بحمله. صحيح أن الشأن الحياتي والمعيشي مرتبط بالسياسة، لكن نجاحه في مهمته مرتبط بهذا الملف، بحيث تكون حكومته «حكومة الناس» وهمومها. وهذا هو معيار النجاح أو الفشل الذي يحدد مستقبل الرجل.
تكاد تكون هموم الناس الجامع الوحيد «للشعوب والأمم اللبنانية المتناحرة» على الرغم من سعي الكثير من أهل السياسة الى تطييف هذه الهموم. لكن حكومة تصرف اهتمامها على هذه الهموم ستدفع الطبقة السياسية الى الانكفاء عن هذه التجارة المرذولة. عندها لن يتردد صدى السياسة في رؤوس الذين يأكلهم يومياً وحش الغلاء ويقض مضجعهم الجوع وتحرق أنفاسهم صفائح البنزين والمازوت والكاز.
إن الحكومة الرشيدة هي التي تبدأ من هذا الطريق. فالسياسات الحكومية التي سادت خلال العقدين الماضيين قامت على بناء الأبراج مكان الأكواخ أو بجوارها، فأصبحت الغلبة الساحقة من اللبنانيين بلا سقوف. ولا يريد اللبنانيون في هذه المرحلة أكثر من سقف يقيهم غائلات الدهر. وبصراحة يريد اللبنانيون عيشاً كريماً لائقاً وآمناً، ولا ضير أن يتكئ هذا الهدف الى تعزيز الدفاعات اللبنانية في وجه الرياح الخارجية المسمومة أنى أتت. وهذا هو التحدي الأكبرالذي يواجه ميقاتي في المرحلة المقبلة. والنجيب هو من يربح الناس قبل السياسة، وليس من يخسر الناس ليربح أهل السياسة.
الناس تريد يا دولة الرئيس كبح جماح وحش الغلاء وخفض أسعار المحروقات وتحسين الأجور وحداً أقصى من الكهرباء ومياهاً نظيفة وأشياء أخرى بسيطة وغير مستحيلة. عندها لن يجرؤ أحد على قلب ظهر المجن في وجهك، لا بالتحريض المذهبي ولا بالغضب والتوتر والتخريب. فمن تحميه الناس لن تغتاله السياسة، ونزعم يا دولة الرئيس أنك أهل لهذه المهمة

19‏/01‏/2011

الحريري والفرصة السانحة

واصف عواضة
السفير- الاربعاء 19 ك2   2011
كانت فرصة ثمينة تلك التي وفرتها «الحقيقة ويكس» عبر تلفزيون «الجديد» للرئيس سعد الحريري، قد يكون التقاطها بسرعة فرصة لانتشال البلد من أزمته، وانتشال زعامته السياسية من المستقبل المجهول.
ربما من السذاجة الاعتقاد أن سعد الحريري طليق اليدين في اتخاذ قرار الطلاق مع المحكمة الدولية التي بدت في الفترة الاخيرة، على المكشوف، ورقة أميركية ثمينة في مواجهة «محور الشر» الرباعي في المنطقة. لكن محكمة تُباع وثائقها وتسجيلاتها الصوتية وتُشرى في سوق الخضار، كالبصل والفجل والبندورة، هي محكمة يُفترض أن تهتز ثقة الناس بها، وأولهم أولياء الدم الحريصون على معرفة الحقيقة. والأجدى بالرئيس الحريري الذي أحرجته التسجيلات الصوتية واضطرته الى الاعتذار ممن أهانهم أمام لجنة التحقيق، أن يكون أول المنتفضين على هذه المحكمة ولجانها ومحققيها الذين تاجروا بدم رفيق الحريري ورفاقه وباعوا أسرار التحقيق في سوق النخاسة.
ولعل أسخف ما نشر حول هذه التسريبات، ما جاء على لسان «مصدر مطلع» من ان طرفا ما (المقصود به «حزب الله») استولى على هذه التسجيلات لدى زيارة فريق من لجنة التحقيق الى عيادة الدكتورة إيمان شرارة في الضاحية الجنوبية. فإذا كان المحققون يحملون وثائق التحقيق ونصوصها الصوتية معهم في حلهم وترحالهم، يصبح العذر أقبح من الذنب نفسه، وتستحق عندها هذه المحكمة أكثر من نزع الثقة بها، لأن العبث بمصير بلد بكامله الى هذا الحد يستدعي اعتقال هؤلاء المحققين بتهمة سوء الأمانة.
لقد أعلن الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في خطبة الليلة العاشرة من شهر محرم الماضي، أن أحد المحققين الدوليين عرض وثائق التحقيق للبيع، وان الحزب رفض شراءها، لم يصدق البعض هذه الوقائع وراح يسخر ويهزأ من هذا الكلام. فماذا يقول هذا البعض اليوم وهو يستمع الى التسجيلات الصوتية التي لم ينكرها أصحابها، والحبل على الجرار كما تقول محطة «الجديد»؟
في أي حال، وافتراضا لحسن النيات، وبعيدا عن لغة النكد والتحدي، فإن الفرصة لا تزال سانحة للملمة شتات الازمة الحكومية والسياسية التي يغرق فيها لبنان. فالرئيس الحريري يعرف جيدا أن لا بديل من حكومة شراكة وطنية، على علاتها، حتى لو كان «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» خارجها، مع العلم أن المحكمة لم تعد العنصر الوحيد في الأزمة. ويعرف الحريري أكثر أنه لن يستطيع التقليع بحكومة اللون الواحد، لا هو ولا أي رئيس مكلف قد تختاره المعارضة في ظل «المعادلة القسرية» التي باتت تحكم البلد، معادلة الشراكة السنية الشيعية. وحسنا فعل رئيس الجمهورية بتأجيل الاستشارات الملزمة، لعل وعسى تكون الايام الفاصلة عن الاثنين المقبل فرصة تأمل للزعيم الشاب الذي يُفترض به أن يقتنع بأن كل زعامات العالم وسفاراتها ومخابراتها، لا تغنيه عن الاتفاق مع شركائه في الوطن.

13‏/01‏/2011

كي لا تخسر المعارضة نفسها

 
واصف عواضة
 14 ك2  2011السفير
يُفترض بالمعارضة أن تكون قد رسمت «خارطة طريق» دقيقة ومفصلة قبل الإقدام على إسقاط الحكومة بالفقرة الثانية من المادة 69 من الدستور، في سابقة هي الاولى في تاريخ لبنان. ويُفترض بهذه الخارطة أن تكون قد بُنيت على ثوابت وبدائل لا مجال للتراجع عنها أو المساومة عليها مهما تصاعدت الضغوط، وإلا فإن المعارضة ستخسر معركتها وربما حربها وبعد ذلك نفسها.
لقد كان إسقاط الحكومة الوفاقية، نتيجة منطقية لإسقاط التفاهم السوري السعودي بقرار أميركي واضح لا يحتمل اللبس. وقد حاولت المعارضة عبثا استنقاذ هذا التفاهم عبر دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد في محاولة يائسة للبننة الحل. وهي لم تفاجأ بما آلت اليه الامور على صعيد هذه الدعوة، فلجأت إلى «أبغض الحلال» في خطوة دستورية خالصة، من دون أن تسقط من حسابها أن هذا التفاهم لا يزال بندا أساسيا، ومشروعا مطروحا على بساط الحل، وان كان في غرفة العناية الفائقة.
في هذا السياق، تقول أوساط المعارضة انها تقرأ جيدا في كتاب الواقع اللبناني وما يحيط به من تداخلات وارتباطات اقليمية ودولية، لكنها لا تستطيع العودة الى نقطة الصفر في مجال التفتيش عن الحل للأزمة السياسية. وعليه فإن التفاهم السعودي السوري هو الثابت والمدخل الى أي بحث حكومي، وبعدها تصبح التركيبة الحكومية مجرد تفاصيل، سواء بعودة سعد الحريري أو عدمه، لأن رئاسة الحكومة هي صفة وليست اسما معينا. فمشكلة المعارضة ليست مع الاسماء أو الاشخاص بل هي مع التوجه الذي يحمله هؤلاء، من دون أن يغيب عن بالها ان التجربة مع الحريري كانت قاسية وفاشلة.
قد يكون من المبكر الكلام عن الميناء الذي سترسو فيه سفينة الحكم في المرحلة المقبلة. ولا يشك أحد بأن المعركة ستكون قاسية، وقاسية جدا على المستوى السياسي، وسط تلاطم الامواج العاتية بالسفينة الحكومية. فالفريقان الاساسيان للأزمة يتمسكان بسلاحهما بضراوة لأن الخسارة ستكون قاضية هذه المرة، والمجال سيكون ضيقا جدا أمام سياسة «لا غالب ولا مغلوب». فالمعارضة لم يعد أمامها ما تقدمه في هذا المجال سوى رأسها للمقصلة، فيما الطرف الآخر يعرف جيدا فداحة الخسارة التي سيمنى بها وهو خارج السلطة.
لقد كانت تجربة الرئيس رفيق الحريري خارج الحكم قاسية جدا بين العامين 1998 و2000 وها هو «البيت الحريري» يواجه احتمال هذه التجربة مرة أخرى، بسبب ربط مصالحه الحيوية في البلد بالموقع السلطوي، أمنيا وقضائيا واداريا واقتصاديا، وهو يعرف جيدا أن خصومه لن يكونوا رحماء في تصحيح ما يرونه خللا أو تسلطا في هذه القطاعات.
وليس سرا أن الأنظار مسلطة في هذا المجال على موقعين رئيسيين سيكون لهما الكلمة الفصل في تحديد اتجاه الريح: رئاسة الجمهورية وقصر المختارة. وربما ينطبق على هذين الموقعين قول أبي الطيب المتنبي: «ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أنّي لما أنا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ». فالاول يحتم عليه موقعه اتخاذ المواقف المعنوية التي تحفظ البلد، والثاني المواقف العملية الفاصلة من خلال كتلته النيابية المرجحة في البرلمان. وقد بات تدوير الزوايا من قبل هذين الموقعين محفوفا بالكثير من الصعاب.
يبقى ثمة مخرج يشبه المعجزة قد تحمله الايام والاسابيع المقبلة، وهو الرهان على تفاهم الـ«أ ـ س ـ إ» الذي يواجه خلال المرحلة المقبلة استحقاقات ومفاوضات، بعضها علني، وبعضها الآخر بالواسطة. والمهم ان تبقى الأزمة في إطارها السلمي الديموقراطي الدستوري، ولكل حادث حديث.

10‏/01‏/2011

أمة تحارب نفسها!

واصف عواضة
السفير 10 كانون الثاني 2011
لم تعد اميركا ولا اسرائيل بحاجة الى حروب عسكرية مباشرة ضد العرب وبلدانهم ومقاوماتهم، لا فرادى ولا مجتمعين. فالحروب القائمة بين العرب انفسهم وداخل بلدانهم، كافية لتردع اي عاقل واي غبي عن شن حروب قد توحد صفوف أمة ممزقة، او تجمع شتات أهلها المتفرقين ايدي سبأ.
في التفاصيل المملة يحار المواطن العربي من اين يبدأ:
من لبنان الغارق في حروبه الأزلية، وفي صراعه المستجد على المحكمة الدولية وقرارها الظني الموعود للقضاء على آخر أمل في مقاومة اسرائيل ومشاريعها في لبنان والمنطقة؟
من فلسطين «الوهمية» المشطورة «فلسطينين اثنين»، واحدة تحت سنابك الاحتلال وثانية تحت رحمة الحصار، وقد عجزت كل المحاولات لتوحيد الصفين اللذين لا يجمع بينهما جامع؟
من «العراق الجديد» الغارق في دماء ابنائه والموهوم بديموقراطية كاذبة مبنية على الحصص والطوائف والاثنيات، والحالم برفع كابوس الاحتلال عن كاهله، نحو مستقبل قد يكون اكثر سوءا من السيادة الوطنية والاستقلال الموعود؟
من اليمن الموحد بالشكل، وقبائله المتصارعة تحت مسميات مختلفة، وسط دورة متشابكة من العنف المتواصل الذي لا يعرف له قرار؟
من دول الخليج التي تهتز الارض تحت اقدام ملوكها وامرائها وشيوخها بعدما تحول نفطها الى نقمة، فيما يفترض ان يكون نعمة عليها وعلى العرب أجمعين؟
من السودان الآيل الى دولتين بفعل الاستفتاء الذي شهده أمس، والتوقعات المأساوية لمستقبل الانفصال شمالا وجنوبا، في بلد تشكل فيه نسبة الفقر حدودا تدعو الى الأسى؟
من مصر المحروسة التي تميد الارض بطائفتيها الاسلامية والقبطية، والتي انكشفت تحت وطأة المجزرة الاخيرة في الاسكندرية، حتى اذا ما رفع الغطاء عنها، فقد تكون التجربة السودانية نموذجا يحتذى في الدولة التي ارادها جمال عبد الناصر قاعدة للوحدة العربية الجامعة؟
من تونس الى الجزائر الى المغرب الى دول أخرى لا هي بالعير ولا بالنفير ولا تُطرح اسماؤها الا في المؤتمرات، ولا يكاد أهلها يتحدثون لغة الأمة وجامعتها العريقة؟
ان امة هذه حالها لا تحتاج الى اعداء، فأعداؤها منها وفيها، وهي لا تستحق من خصومها والطامعين بخيراتها ان يعلنوا عليها الحرب المباشرة. يكفي ان يشغّلوا «الأنتليجنسيا» السياسية والأمنية في جوفها لاستيلاد الصراعات والفتن والحروب الصغيرة، من دون ان يرهقوا مواردهم البشرية والمادية في رمالها المتحركة.
لقد اثبتت التجارب العسكرية خلال العقد الماضي فشل الحروب المباشرة في تحقيق الاهداف المطلوبة، وان كانت قد اسست للفوضى الخلاقة التي تسبح فيها الأمة من محيطها الى خليجها. فليطمئن المتوجسون من الحرب الى ان الاعداء باتوا أكثر غنى عن الحاجة اليها. لكن المستقبل سيكون بالتأكيد وفي ظل المعطيات السالفة الذكر اكثر سوادا وأخطر واقعا من اي حرب مباشرة ما لم يستولد هذا المستقبل معجزة تطيح بالاجواء القائمة، وتؤسس لمرحلة جديدة تنتشل العرب وبلدانهم من واقع لا حول لهم فيه ولا طول.
ليس ما سبق دعوة الى ثقافة اليأس. انه صرخة من أعماق الألم. ثمة أمل بعد خارج منظومة الاحباط. . ومن يعش ير.

04‏/01‏/2011

أبـو مـاهـر اليماني: ضميـر فلسـطيـن

واصف عواضة
السفير  5 كانون الاول 2010


ما كان «أبو ماهر اليماني» يشتهي الانتقال الى جوار ربه في ظروف أسوأ من هذه الظروف التي تمر بها فلسطين والأمة العربية من محيطها الى الخليج. ربما لذلك آثر الرحيل، حسبه أنه لن يشهد المزيد من حالة التفكك والانحلال والمصائب والويلات المقبلة على هذه المنطقة التي كانت ميدانه النضالي لأكثر من ثمانية عقود. وليس من باب المبالغة القول ان الكثيرين من مجايلي ابي ماهر يؤثرون الرحيل في هذه المرحلة، على العيش في مستقبل عربي يحمل المزيد من الخزي لهذه الأمة، بحكامها وانظمتها ومفكريها وناسها أجمعين.

عن ستة وثمانين عاما رحل أحمد اليماني أمس، عاش خلالها الزمن العربي الجميل والزمن الرديء، وعاشت فلسطين معه منذ وعى على هذه الدنيا في قريته «سحماتا» في قضاء عكا، شأنه شأن كل فلسطيني حيث القضية في جسده مرض عضال لا يشفيه الا العودة أو.. الموت. وها هو الموت يشفي ابا ماهر من مرضه العضال.

والحق يقال ان ما من عربي شريف الا ويتمنى ان يكون أحمد اليماني بصفاته ومناقبه التي ميزت هذا الانسان الكبير. فهو المناضل الثائر النظيف العفيف الشريف الطاهر الودود النقي الزاهد الخلوق المتواضع، والرفيق الذي أسر قلوب جميع معارفه في فلسطين ولبنان والوطن العربي الواسع منذ ما قبل انخراطه في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان أحد ابرز مؤسسيها الى جانب صنوه ورفيق دربه الراحل الكبير جورج حبش. وهو في الوقت نفسه الفلاح النقابي المتفاني في خدمة الطبقات العمالية والفقيرة التي اعطاها الكثير الكثير من تجربته الطويلة. وباختصار لا غرو ان يُلقّب ابو ماهر اليماني بـ«ضمير فلسطين» من دون منازع، تماما كما هو سليم الحص، أطال الله في عمره، «ضمير لبنان».

يوم مات جورج حبش كان المرض قد فعل فعله في ابي ماهر، لكنه أبى الا ان يُحمل الى مقر الجبهة الشعبية في مخيم مار الياس ليتقبل التعازي مع رفاق الدرب. كانت في مقلتيه دمعة جافة، فهو رغم حنانه وعاطفته الجياشة لم يألف الدموع. لكنه أحس منذ ذلك اليوم أن أحمد اليماني قد مات، لأن رحيل «الحكيم» أفقده شهوة الحياة.

عرفت ابا ماهر اليماني في ريعان الشباب، يوم كانت الأحلام كبيرة والآمال عريضة، وتعلمت منه الكثير، فكان هذا الرجل يدهشني بهدوئه وصبره وجلده وطول أناته، فما عرف اليأس يوما. في مذكراته التي نشرها قبل سنوات كتب ابو ماهر اليماني: «قرأت ما تيسر لي من غزوات التتر والفرس والرومان، والإفرنج والأتراك لبلادنا العربية واستخلصت درساً مفاده أن الشعب المؤمن بحقه وعدالة قضيته يواصل ويواصل الكفاح، لا يساوم ولا يفرط ولا يستسلم، لا بد أن ينتصر مهما طال الزمن».

كان لبنان ميدانه الاوسع. عاش فيه اكثر من ثلثي عمره فأحبه واستقر فيه مع عائلته الطيبة، ومارس فيه كل انواع النضال الجسدي والذهني. وبالتأكيد سيفقد اللبنانيون «ابا ماهر اللبناني» مثلما يفقد الفلسطينيون «ابا ماهر الفلسطيني»، فهو لم يسئ يوما الى وطنه الثاني، بل اساءه جدا ان يسئ أحد الى هذا البلد ولو كان من ابناء جلدته. عزاؤنا في ابي ماهر تلك السمعة الطيبة العطرة، كخير ارث يحمله الابناء عن الآباء. فإلى عائلته الكريمة، الى السيدة الفاضلة ام ماهر، والابناء والبنات ماهر ومهند وثائر وعصام وفادي وآمال وفدا وهيفاء، والى شقيقه الصديق الحبيب ماهر اليماني، والى كل محبيه، أحر التعازي، وانا لله وانا اليه راجعون.



تحية الافتتاح