12‏/08‏/2013

انطباعات من طهران عن «الزمن الروحاني»

واصف عواضة- السفير 8 آب 2013
تضج طهران بالحركة والحياة. مدينة توازي مساحتها مع الضواحي نصف مساحة لبنان، يقطنها نحو 16 مليون نسمة. شوارعها مزدحمة بالسيارات ليل نهار على الرغم من شبكة الطرقات الحديثة التي باتت تربك السائقين. يكفي أن مليوني سيارة تسكن هذه المدينة العريقة، وتجعل الحصول على موقف في شوارعها ضرباً من المعاناة.
إنجازات الثورة خلال 33 عاماً أكثر من أن تعد وتحصى. حملات التشجير المستمرة حوّلت طهران إلى مدينة خضراء، بعدما كان هذا الامتياز حصراً على بعض أحيائها الشمالية، حيث قصور الشاه والحاشية.
أسواقها وبازاراتها مغرقة بالبضائع على أنواعها، على الرغم من حالة الحصار والعقوبات الدولية المفروضة على إيران وجمهوريتها الإسلامية. أماكنها السياحية تضج بالرواد، وتكاد مطاعمها تغص بالزبائن من كل الأعمار والأجناس. رجالها في حركة دائمة سعياً وراء رزق وإنتاج يحاول الغرب خنقهما بكل السبل. نساؤها يزرعن أنفسهن في كل القطاعات الرسمية والخاصة في واقع تبدو فيه المرأة الإيرانية أكثر تحرراً من أي دولة اسلامية أخرى، وفي إطار المظهر الشرعي للحجاب الذي تحوّل في الغالب إلى موضة أكثر منه التزاماً دينياً.
بعيداً عن الشكل الذي لا يقل أهمية عن المضمون، تقف طهران ومعها كل إيران على رِجل واحدة، بانتظار الآتي غداً بعد أمس صعب ما زالت تعيش حاضره المثقل بالأكلاف الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الحصار الدولي.
يعوّل الجميع بحذر على الرئيس الجديد حسن روحاني الذي تسلم مفاتيح الحكم يوم السبت الماضي من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وأقسم اليمين يوم الأحد أمام مجلس الشورى في احتفالية غير مسبوقة، حضرها ممثلون عن أكثر من 60 دولة، بينهم رؤساء دول ورؤساء وزارة ووزراء خارجية وسفراء.
وقد سارع روحاني خلال الاحتفال إلى تسليم رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني لائحة بحكومته التي كان أعدها خلال الفترة الانتقالية، وذلك لنيل الثقة خلال 15 يوماً.
لا أحد في طهران يعتبر مهمة الرئيس الجديد سهلة، إلا انه لا يختلف اثنان على أن روحاني سيُعطى فرصة لن تقل عن السنة من كل القيادات والمؤسسات الحاكمة، بدءاً بالمرشد الأعلى وانتهاء بمجلس الشورى، الذي لا يزال المحافظون يسيطرون عليه.
لكن من الواضح أيضاً أن الشعب الذي أعطى روحاني ثقة غير مسبوقة من الدورة الأولى، لن يرحم الرئيس وحكومته إذا لم تتمكن خلال هذه الفرصة من نقل البلاد إلى واقع جديد، أو على الأقل وضع الأسس المتينة لهذه النقلة. فالشعب الإيراني أرهقته السنون الماضية في ظل العقوبات الدولية، وهو يريد أن يخرج من هذا الواقع، لكن بكرامة ومن دون أثمان باهظة، وهذا ما وعد به روحاني، وهو أيضاً ما يجعل مهمة روحاني أبعد من أن تكون مفروشة بالحرير والورود والرياحين.
ولعله من الخطأ الجسيم اعتبار أن روحاني يتسلم بلداً منهاراً، بل على العكس من ذلك هو يمسك بدولة متينة تحكمها مؤسسات وقوانين واقتصاد لا يزال قادراً على تأكيد حضوره في الساحتين الداخلية والخارجية. ويعتقد المتابعون في طهران أن الحصار الدولي والعقوبات القاسية حفزت إيران وشعبها على المزيد من العمل والإنتاج. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير الإحصاءات إلى أن إيران صدرت العام الماضي إلى الخارج ما قيمته 22 مليار دولار من المنتجات البتروكيميائية فقط، في وقت لا تزال المواد الأساسية مدعومة من الدولة، حيث لا يتجاوز سعر صفيحة البنزين الأربعة دولارات أميركية، بعدما تمكنت الدولة من بناء المصافي والتوقف عن استيراد البنزين. وعليه يمكن القول إن روحاني يتسلم دولة كاملة المواصفات، وليس شبه دولة كما يتصور البعض.
يقول أحد المتابعين في طهران إن الإجازة المعطاة للرئيس الجديد للتحرك ستكون رحبة، لكنها لن تكون بلا سقف بل «تحت الكساء» على حد قول أحد الزملاء في طهران. فالتحرك مسموح في كل الاتجاهات، والتفاوض مباح مع الجميع (باستثناء إسرائيل طبعاً)، وكل ما يمكن إحرازه يكون خاضعاً للنقاش والتشاور مع المؤسسات العليا، وهذا ينطبق على التعاطي مع الخارج. أما الشؤون الداخلية، خاصة المتصلة بحياة الناس وهمومهم وشجونهم، فالهامش أمام الحكومة الجديدة أوسع من أن تحده حدود.
لكن المشكلة الأساسية أمام روحاني، هي أن الشؤون الداخلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأزمة مع الخارج. فلولا الحصار والعقوبات لاستطاعت إيران أن تحقق إنجازات أبعد من الخيال، ومع ذلك تمكنت خلال السنوات العشر الماضية من أن تنجز الكثير الكثير، وهذا يترجم قدرة القيادة والشعب الإيرانيين على مجابهة العواصف العاتية التي واجهتها الجمهورية الإسلامية الفتية.
لقد حرص روحاني على اختيار أعضاء حكومته من التكنوقراط المستقلين، أملاً منه في الابتعاد عن التناحر الحزبي داخل الحكومة، بما يعطل عملها (قد يكون استفاد من التجربة اللبنانية على الرغم من الفارق الكبير في طبيعتي النظامين). فغالبية الوزراء من أصحاب الخبرة في مجالاتهم، وسبق لهم أن شغلوا مناصب حساسة، ويبدو أنهم يحظون برضى شعبي واسع. وقد تُركت له حرية الاختيار بنسبة عالية جداً، وهو اتكأ في اختياره على مراكز القوى من كل الأطراف الإصلاحية والمحافظة، وإن كانت الغلبة في ذلك تميل إلى الرئيس الأسبق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي يبدو أنه استعاد حرارته السابقة في رعاية السلطة. ويلاحظ المراقبون نسبة عالية من الوزراء عملت تحت جناح رفسنجاني في مراحل سابقة.
في أي حال، تبقى العبرة في المستقبل. فالحكم على السلطة الجديدة لن يبنى على شخصياتها وكفاءتهم وخبراتهم، بل على إنجازاتها خلال المرحلة المقبلة. فالسلطة عادة تهز أكبر وأفضل الكفاءات والخبرات، وكم من مسؤول دخل حياضها مزهواً مرفرفاً واعداً، وخرج منها مهيض الجناح على قاعدة «نصف الناس مع الحاكم إذا عدل» فكيف إذا لم يعدل.
ثمة ملفات ثقيلة ستواجه حكومة روحاني، وقد وضعت لها الخطط المناسبة وتستدعي عدم تضييع الوقت، ويأتي في صدارتها ملف العلاقات الأميركية - الإيرانية، وهو الملف الذي يتوقف عليه مصير الكثير من الملفات الأخرى، من الملف النووي إلى ملف العلاقات العربية الإيرانية وسوريا ولبنان وفلسطين والدور الإيراني في المنطقة.
ويعتقد مصدر حسن الاطلاع في طهران، أن العلاج يبدأ من فوق، أي من واشنطن، وبعد ذلك تهون الأمور. إلا ان ذلك لا يمنع أن يبدأ التحرك من تحت، لسبر أغوار كل الملفات الأخرى. فالملف النووي في رأي هذه المصادر ليس العقدة الرئيسة بقدر الملفات السورية واللبنانية والفلسطينية، لأن الغرب بات يدرك جيداً سلمية الملف النووي، لكنه يضغط في مكان لإجبار طهران على التنازل في أمكنة أخرى.
لكن هذه الملفات ليست في يد الرئاسة بالمطلق كما هو معروف، بل تتولاها القيادة العليا مباشرة، وعبر ممثلين مختصين يمسكون بهذه الملفات، وهي تعتبر خطوطاً حمراء من الصعب اختراقها، خاصة في الملفين السوري واللبناني.
ويختصر مسؤول إيراني كبير كانت له صلة مباشرة بالملفات السورية واللبنانية والفلسطينية هذا التوجه بالقول «لن تسقط سوريا في يد الخصوم مهما غلا الثمن».
وفي الإطار نفسه، يبدو ملف «حزب الله» أكثر تشدداً بالنسبة إلى إيران، لدرجة أنه غير خاضع للبحث والنقاش والجدل، أيا كانت وجهة السلطة التنفيذية في الجمهورية الإسلامية.
وعلى الرغم من بعض الفتور الذي انتاب العلاقة بين إيران وحركة حماس في الفترة الأخيرة، فإن طهران لن تتخلى عن حركة المقاومة الفلسطينية، وتأمل أن تعدل حماس عن مواقفها، خاصة بعد انهيار نظام «الإخوان المسلمين» في مصر والذي كان يشكل رافعة لها وقد راهنت عليه قيادة الحركة بشكل واضح دفعها إلى مجافاة حلفائها في محور الممانعة.
وفي أي حال فإن فلسطين بالنسبة إلى إيران ليست موقفاً موسمياً، بل هي في صلب دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي ينص على «دعم نضال المستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم»، ( المادة ١٥٤)، على حد قول مسؤول إيراني كبير.
وكما في ملف العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن ملف العلاقات مع الدول العربية يحظى باهتمام الرئيس روحاني. وتعتقد المصادر أن العلاقات الإيرانية السعودية تأتي في صدارة الاهتمام باعتبارها المدخل الأساسي لمعالجة هذا الملف. ويرجح أن تكون الرياض باكورة التحرك الخارجي للرئيس الإيراني. وتلعب الكويت دوراً بارزاً في وصل ما انقطع بين السعودية وإيران، وهي سعت في الفترة الأخيرة إلى تحسين التمثيل السعودي في حفل تنصيب روحاني، من رتبة سفير إلى رتبة وزير.
ويعول المراقبون على انفراج العلاقات بين السعودية وإيران بما ينعكس إيجاباً على التسوية السياسية في كل من سوريا ولبنان، بعدما باتت الرياض وطهران على طرفي نقيض في هذين الملفين، ووسط قناعة الكثيرين بأن السعودية، أو بعض مسؤوليها، يلعبون دوراً بارزاً في عرقلة التسوية في البلدين.
في طهران الرهان كبير على «الزمن الروحاني»، لكن الحذر أكبر. فالجمهورية الإسلامية التي تفتح ذراعيها وتمد يديها للآخرين تريد تسويات كريمة، وهو ما ركز عليه الرئيس روحاني في خطبه وتصريحاته الأخيرة، لكنها تواجه خصوماً يريدونها بلا كرامة، ويريدون منها أن ترتد إلى نفسها، وأن تسحب يدها من كل الملفات في المنطقة، وهو ما ترفضه إيران بشدة، لأنه يفقدها طبيعتها ودورها ويلغي ثورتها ونظامها الذي دفعت أثماناً غالية للحفاظ عليه.
وبين إيران الشاه وإيران الخميني سوف تختار طهران إيران الخميني والثورة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، على حد تأكيد معظم المسؤولين الإيرانيين.
في الخلاصة، وبانتظار تبلور السياسة الروحانية ونتائجها، يتوقع الإيرانيون فترة من الاسترخاء، خصوصاً أن الولايات المتحدة أعربت عن رغبتها في التعاون مع الرئيس الإيراني الجديد لمعاجة الملفات العالقة. وإلى أن تتبلور الأمور يخلق الله ما لا تعلمون.

تحية الافتتاح