02‏/12‏/2013

عاشوراء:ثورة الانسان المسلم ام ثورة المسلم الانسان*

ليس سهلا على الكثيرين من خارج الطائفة الاسلامية الشيعية ,تفهم ظاهرة عاشوراء، خصوصا اولئك الذين لم يتعمقوا في التاريخ الإسلامي. اذ كيف يمكن لواقعة يردها البعض الى صراع على السلطة، أن تعيش حية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان بمثل هذه الحيوية وهذا الحضور؟!

بالنسبة للطائفة الاسلامية الشيعية ,المسألة ليست مستغربة ولا تحتمل النقاش أو الجدل.يولد الطفل في عائلة شيعية، فقيرة كانت أم ميسورة، فيفتح عينيه على مصيبة الحسين ومأساة كربلاء. يشرب المظلومية الحسينية مع حليب الأمهات، ويأكل من مائدة عاشوراء خبز الرفض والمقاومة عبر تاريخ طويل من الاضطهاد والانتفاضات.

 

ليس في تاريخ المسلمين الشيعة الكثير من فترات الاستقرار تدفعهم الى اجتناب القلق والتآلف مع الطمأنينة. هم يشعرون دوما ان الهواجس تسكنهم كلما راجعوا تاريخهم السياسي والاجتماعي والانساني. بطلهم التاريخي الإمام علي بن ابي طالب الذي يعتقدون انه كان الاولى بخلافة نبيهم محمد بن عبد الله.

 يحمل الإمام علي عند الشيعة كل صفات الرجل الرجل: هو سيف الرسول القاطع، الفقيه والاديب والشاعر والأمين والمؤتمن على رسالة الاسلام، الزاهد الزهود، نصير الفقراء والمساكين، الحاكم العادل الذي لا يطيب له عيش أو حياة، وفي حدود خلافته والٍ جائر أو محتاج حائر. هو القائل: «أعجب لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهرا سيفه». ومن هذه الحكمة الراسخة يستمد المسلمون الشيعة عادة, وقود رفضهم ومقاومتهم وانتفاضاتهم.

 

تشكل معركة صفين مفصلا تاريخيا في حياة الطالبيين الشيعة. في هذه المعركة ارتضى علي بن ابي طالب نتائج التحكيم الذي فصل به عمرو بن العاص وابو موسى الأشعري. لكن المسلمين الشيعة في قرارة أنفسهم، لم يرتضوا هذه النتيجة حتى الآن، أو على الأصح لم يهضموا ما يعتبرونه خديعة العصر. يجدون في الحسين بن علي وريثا شرعيا لبطلهم الاول الذي سقط غدرا وهو يصلي في مسجد الكوفة، ويقرأون في كتاب كربلاء صبح مساء حتى غدا في ثقافتهم «أن كل يوم عاشوراء ,وكل أرض كربلاء».

على مر التاريخ كان للمسلمين الشيعة أئمة وقادة وأبطال كبار، كلهم يستمدون حضورهم من الحسين بن علي. وفي كل حقبة من الزمن كان للشيعة «حسينهم». يستحيل أن يأتلف المسلمون الشيعة مع قائد يكون على خلاف مع الحسين، أو يكون بعيدا عن طيف كربلاء، في الشكل والمضمون والمحتوى السياسي والاخلاقي والانساني.يختلف الشيعة في ما بينهم على اعظم الأمور وأدناها ,لكنهم يتفقون على الحسين.لا خلاف مع الحسين ولا اختلاف حوله عند المسلمين الشيعة.

 

اردت من هذه المقدمة التي وردت في مقالة لي في صحيفة "السفير" قبل اكثر من خمس سنوات,أن اشير الى واقع ووقع ثورة الحسين في كربلاء قبل اربعة عشر قرنا من الزمان,لأخلص الى سؤال على جانب من الأهمية: هل كانت ثورة الحسين حركة شيعية وللمسلمين الشيعة وحدهم ,أم هي ثورة انسانية شاملة؟

سألني صديق قبل ايام : اذا كانت ثورة الحسين ثورة انسانية فلماذا يحتكر الشيعة مناسبة عاشوراء ويحتفلون وحدهم بها سنويا؟

قلت: كان من الأصح ان تسأل لماذا بات الاحتفال بهذه المناسبة واحياء هذه الذكرى حكرا على المسلمين الشيعة دون غيرهم؟

والحقيقة انه لا يضير المسلمين الشيعة ان يحتفل العالم باسره بذكرى ثورة الحسين ووقعة كربلاء,من حيث هي ثورة اسلامية انسانية شاملة ,حيث لا فصل مطلقا بين الاسلام والانسان.

 أكثر من ذلك , إن الدين الذي لا تكون غايته الانسان وسعادته هو ليس بدين .فالإسلام هو دين الانسان والانسانية ,قبل ان يكون طقوسا وعبادات, واحيانا بعض الشكليات.وثورة الحسين لم تأت من فراغ ,بل هي قبس من ثورة ذلك الرسول العظيم , جده محمد بن عبد الله.ولو عدنا قليلا الى حياة الحسين لاكتشفنا ذلك القبس الذي بدأ في المدينة ولم ينته في كربلاء.

ولد الحسين في الثالث من شعبان في العام الرابع للهجرة في المدينة المنورة بعيدا عن مكة المكرمة ارض الآباء والاجداد والكعبة المشرفة.عاش طفولته الاولى في كنف جده رسول الله وابيه علي بن ابي طالب وأمه فاطمة الزهراء.

شاهد المسلمين الأوائل مهجرين مهاجرين بعيدين عن ارضهم ومنازلهم يتحرقون شوقا للعودة اليها ,وشاهد الألفة بين المهاجرين والانصار على قاعدة انما المؤمنون أخوة في الانسانية.

شاهد الحسين جده لا يفرق بين مسلم وآخر مهما كان شكله او لونه وعشيرته ,فقيرا كان ام موسرا,يتعامل معهم سواء بسواء.

لم يكن قد بلغ الخامسة من عمره عندما عاد المسلمون الى مكة فاتحين ,فشهد التسامح الذي ابداه جده الرسول مع الآخرين على قاعدة الأمان الذي اعطاه لهم.

شاهد الصبي جده في مكة المكرمة يساوي بين زعيم قريش ابي سفيان والعبد الحبشي بلال بن رباح .وكان من الطبيعي ان يتشرب الحسين في طفولته اعظم حالات المساواة الانسانية.

شاهد الصبي في طفولته كيف يفرض اسلام محمد على الاغنياء ان يعيلوا الفقراء من خلال الزكاة في ارقى حالات العدالة الانسانية.

لم يكن سهلا على الصبي الذي لم يبلغ السنوات الثماني ان يفقد جده وحاضنه الذي انتقل الى الرفيق الاعلى .كذلك لم يكن سهلا عليه ان يتفهم في تلك السن المبكرة تنازل والده عن الخلافة درءا للفتنة بين المسلمين.

عاش الحسين شبابه في ظل الخلفاء الراشدين الذين تعاملوا مع الناس على هدي القرآن الكريم وسنة رسول الله.

عاش الحسين خلافة ابيه بما يحمله الحاكم  من صفات الزهد والعدل والانصاف بين الناس.فهذا علي بن ابي طالب الذي يقول "والله ليس لي نصيب بقرص الشعير وفي ولايتي من لا نصيب له بحبة التمر".فكيف يمكن للحسين في منتصف الخمسينات من العمر ان يرضى او يستسلم لحاكم جائر كيزيد بن معاوية؟

 

هذا هو الحسين الذي خرج من المدينة رافضا الطاعة ليزيد الذي تحولت الخلافة في عهده الى وراثة عائلية ,خلافا لاسلام محمد بن عبد الله الذي يأمر بالشورى بين المسلمين لاختيار خليفتهم.

لقد خرج الحسين على طاعة يزيد من اجل هذا الاسلام الانساني الذي يساوي بين ابي سفيان وبلال الحبشي ,والذي يحرّم على المسلمين ان يكون بينهم فقراء.هذا الاسلام هو اسلام المساواة والكفاية وليس اسلام العبادات فقط .لم يخرج الحسين على يزيد لأنه تارك للصلاة ولأنه شارب للخمور فقط ,بل لأنه كان يخاف على الانسان المسلم وعلى اسلام جده في عهد يزيد.وفي هذا الأمر يقول الامام الحسين:"إني لم أخرج أشِراً(مرحا) ولا بطراً ، ولا مُفسِداً ولا ظالماً ، وإنما خَرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي محمد صلى الله عليه وآله".

 

ويقول ايضا: "مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستَحلا لِحَرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لِسُنَّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أنْ يُدخِله مَدخَله".

 

من اجل هذا الاسلام الانساني خرج الحسين.هذا الاسلام الذي يقول فيه امير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الرائعة "ولد الهدى":

 

 

بك يا ابن عبدالله قامت سمحة   

 بالحق من ملل الهدى غراء  

 

بنيت على التوحيد وهو حقيقة

  نادى بها سقراط والقدماء  

 

ومشى على وجه الزمان بنورها

كهان وادي النيل والعرفاء  

 

الله فوق الخلق فيها وحده

    والناس تحت لوائها أكفاء  

 

والدين يسر والخلافة بيعة

 والأمر شورى والحقوق قضاء  

                        

 

والبر عندك ذمة وفريضة

لا منة ممنوحة وجباء  

 

جاءت فوحدت الزكاة سبيله

حتى إلتقى الكرماء والبخلاء  

 

انصفت أهل الفقر من أهل الغنى

 فالكل في حق الحياة سواء  

 

وهنا يراودنا السؤال الدائم :هل استفدنا من ثورة الحسين؟

نعم.. ولا.

بكل راحة ضمير أقول نعم استفدنا واستفادت البشرية والانسانية جمعاء, ما يدلل على ان هذه الثورة التي مضى عليها اكثر من 135. سنة لم تكن حركة نضالية للمسلمين عامة وللشيعة خاصة ,وان كانت الخصوصية في هذا المجال لها ما لها من مواقع ومواقف وانجازات.فهذه المقاومة العظيمة التي نشأت في جنوب لبنان ,وهذا الشعب الذي رعاها باشفار العيون ليحقق التحرير في عام 2... والانتصار في عام 2..6 والردع الدائم للعدو ,كل ذلك استوحى نضاله وعزيمته التي لم تقهر  من ثورة كربلاء, وتحت شعار لبيك يا حسين لبيك يا ابا عبد الله وهيهات منا الذلة.هذا من دون اسقاط حق المقاومين الاوائل من كل الاحزاب والملل والذين كانت ثورة الحسين في ضميرهم وذاكرتهم.

 

وهذا عظيم الهند وزعيمها ومحررها المهاتما غاندي يقول: «لقد طالعت حياة الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء ,واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين»

ويضيف غاندي:« لقد علمني الحسين أن أكون مظلوما فأنتصر» .

 

وتتعد د آراء الكتاب والأدباء والمؤرخين والمستشرقين في هذه الثورة عربا ومسلمين واجانب, فيقول الكاتب والأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد:ثورة الحسين، واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ لم يظهر نظير لها حتى الآن في مجال الدعوات الدينية أو الثورات السياسية. فلم تدم الدولة الأموية بعدها حتى بقدر عمر الإنسان الطبيعي، ولم يمضِ من تاريخ ثورة الحسين حتّى سقوطها أكثر من ستين سنة ونيّف.

ويقول الكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي :الحسين شهيد طريق الدين والحريّة، ولا يجب أن يفتخر الشيعة وحدهم باسم الحسين، بل أن يفتخر جميع أحرار العالم بهذا الاسم الشريف.

 

ويقول المستشرق الألماني ماربين :قدّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعز الناس لديه ,ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيّته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما.

نعم استفاد البعض من ثورة الحسين ,والبعض الآخر لم يستفد.فكم وكم من حكام العرب والمسلمين يتعاطون مع شعوبهم على هدي الجاهلية وقاعدة الاسياد والعبيد؟ وكم وكم من حكام العرب والمسلمين يحيط بهم الفقراء والجياع من كل جانب ,فلا مساواة في الانسانية ولا عدالة اجتماعية أمر بها اسلام محمد؟

وبعد,أمام هذه الثورة الانسانية العظيمة,هل يجوز ان نحول ثورة الحسين الى ذكرى للحزن والتأسي والبكاء واللطم وشج الرؤوس ؟

وهل يجوز الا ان نرفع رؤوسنا وهاماتنا فخرا بهذه الثورة ونتبارك ونبارك بهذه الذكرى المجيدة؟

 

الم يحن الوقت لتحويل عاشوراء الى مناسبة للوحدة الاسلامية ,لا للتفرقة بين الطوائف والمذاهب والملل ؟

ألم يحن الوقت لأخراج عاشوراء من الدائرة الشيعية بما يشبه الاحتكار ,الى العالم الاسلامي والانساني الرحب والواسع؟

وما الذي يمنع المسلمين عامة بكل مذاهبهم ومللهم ,من الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة؟

وهل كان قتلة الحسين من المسلمين السنة لكي يتنكب البعض للدفاع عنهم عن جهل وتعصب أعمى؟ أو ليذهب بعض الغلاة مذهبا خطرا في التحريض على المسلمين السنة؟

الم يحن الوقت لأخراج السيرة الحسينية الشريفة من الزواريب, وتطهيرها مما علق بها على مر العصور من شوائب  اساءت الى الحسين وآله وثورته العظيمة؟

اليس أولى بقراء السيرة الحسينية ان يحكّموا العقل والمنطق في تلاوة هذه السيرة العطرة فلا يبالغوا في سرد الروايات الدخيلة عليها؟

 

اسئلة ستظل مطروحة امام الملأ الى ان يقتنع الجميع بأن ثورة الحسين في كربلاء هي ثورة المسلم الانسان ,وليست ثورة الانسان المسلم.

    واصف عواضة

 

*محاضرة القيت في مجلس عاشورائي في بلدة العباسية  

مفتاح لبنان بين السعودية وإيران

واصف عواضة- السفير 28/11/2013
يشغل اللبنانيين هذه الايام سؤال واحد: ما هي انعكاسات ومفاعيل الاتفاق النووي الإيراني على لبنان في المستقبل القريب والبعيد؟ وهل سيقطف هذا البلد الصغير ثمار الاتفاق سلباً أم إيجاباً؟.
تصعب الإجابة على هذا السؤال بصورة جازمة حالياً، وإن كانت التحليلات السياسية تسير وفق أهواء القوى اللبنانية المتصارعة، والتي ذهب بعضها بعيداً في استقراء المستقبل، استناداً الى طموحاته وآماله ورهاناته، وليس الى منطق الأمور.
قد يكون الجواب الشافي في جعبة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي تيسر له، كأول مسؤول سياسي من خارج إيران، أن يلتقي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، ويعقد معه خلوة استمرت عشرين دقيقة، وهي مدة كافية ليطرح على المسؤول الإيراني الأول سؤالاً من شأنه ان يحل اللغز اللبناني الحائر: ما هي آفاق العلاقات الإيرانية - السعودية؟.
يعرف الرئيس بري جيداً أن المرحلة اللبنانية الراهنة معقدة، وأن مفتاح التسويات للقضايا العالقة هو في يد الدولتين المؤثرتين مباشرة على لبنان، وهما السعودية وإيران.
ويعرف أيضاً أن إيران تطمح الى أفضل العلاقات مع دول الجوار، لا سيما السعودية وسائر دول الخليج، وقد سمع من وزير الخارجية الإيرانية محمد جود ظريف عزمه على إطلاع دول الجوار على تفاصيل الاتفاق بين إيران ومجموعة الخمسة زائداً واحداً، والأرجح أن تكون السعودية من بين هذه الدول، سواء بالاتصال او بالزيارة المباشرة المؤجلة منذ وصول الرئيس روحاني وحكومته الى السلطة قبل أشهر عدة.
ويعرف الرئيس بري أيضاً أن الوضع اللبناني لم يعد يحتمل حالة الجمود المرتبطة بتطورات الوضع في سوريا، إذ ليس في الأفق ما يبشر بوضع حد للحرب السورية في المدى المنظور، حتى أن مؤتمر جنيف 2 الذي تحدد موعده بعد نحو شهرين، والذي يجري الرهان عليه لإنجاز حل سياسي في سوريا، هو أمر غير مضمون، وقد يتبعه جنيف 3 و4 و5 و10 قبل ان ينبلج الفجر السوري على عودة الاستقرار الى هذا البلد الممزق.
وعليه من الطبيعي أن يعوّل الرئيس بري على التفاهم السعودي الإيراني، سواء بالنسبة للبنان أم بالنسبة لسوريا والوضع الأقليمي العام وما يعتريه من شوائب، خصوصاً على مستوى الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة. فلبنان مقبل على استحقاق أساسي في الربيع المقبل من خلال انتخاب رئيس جديد للبلاد، وقبل ذلك لا يمكن أن يواجه هذا الاستحقاق بحكومة تصريف أعمال وبمجلس نيابي معطل وبقطيعة قاسية بين الأطراف اللبنانيين.
وحدها الرياض قادرة على تنفيس الاحتقان اللبناني، بما لها من دالة على طرف رئيسي ما زال يرفض الشراكة والحوار وتسهيل شؤون البلاد. لكن السعودية التي تشعر بالغضب منذ إلغاء الهجوم الاميركي على سوريا وبعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، والتي تملك أوراقاً ضاغطة في لبنان وسوريا وغيرهما، بحاجة الى تنفيس هذا الغضب من خلال لفتة إيرانية ـ أميركية تؤكد لها دورها وموقعها ونفوذها ومصالحها في المنطقة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الجلوس الى الطاولة بما يؤدي الى تفاهم على مستقبل مطمئن للجميع. وبانتظار ذلك سيظل لبنان على لائحة الانتظار.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

24‏/09‏/2013

لخطاب سياسي جديد
للأزمة السورية
 

 

كتب واصف عواضة:

آن الأوان, بل بات من الضروري جدا,إعتماد خطاب سياسي جديد ومنطقي للأزمة السورية من جانب اهل الحل والربط والمتصدين لهذه الأزمة بالرأي والنقد والتحليل والتنظير.فبعد ثلاثين شهرا ونيف على هذه الأزمة ومفاعيلها المدمرة على الأرض,اصبح معيبا الاصرار على الخطاب المعتمد والرائج منذ سنتين ونصف السنة, بأن سقوط النظام بات وشيكا, وأن ذلك مسألة ايام او اسابيع وشهو...ر قليلة.
الخطاب المنطقي الجديد يقوم على جملة من الحقائق افرزتها هذه الأزمة الطويلة والمفتوحة على مدى غير محدود.فلم تعد هذه الازمة فقط مسألة محلية صرفة تتعلق بالنظام السياسي وضرورة ادخال تعديلات جذرية عليه تؤمن الديموقراطية للبلاد السورية,بل اتسع نطاقها الى قضية اقليمية دولية تداخلت فيها كل العناصر الخارجية المحيطة بسوريا والبعيدة عنها ,بصورة باتت في رأس جداول الاهتمام العالمي.وعليه ينبغي الاعتراف بالحقائق الآتية:
1- ان سوريا القديمة انتهت الى غير رجعة ,وأن سوريا الجديدة لن تقوم الا على نظام جديد يؤمن الضمانة والاستقرار لجميع مكوناتها الداخلية ,ويحفظ للقوى الاقليمية والدولية مصالحها التاريخية من خلال هذا البلد.
2- ان العامل الدولي والاقليمي مؤثر جدا,بحيث لم يعد الموقف الروسي مجرد مناورة كما يرى بعض المنظرين,ولا الموقف الايراني تهويلا فارغا كما يعتقد البعض,ولا الموقف الغربي -الخليجي - التركي حاسما في خياره "الثوري" لاسقاط سوريا في يد هذا المحور العريض.
3- ان النظام السوري ليس وحيدا ولا مستفردا وان اسقاطه لم يعد قدرا محتوما.
4- ان المعارضة في سوريا والمدعومة بالعديد والمال والسلاح ,حاضرة بقوة في المشهدين الداخلي والخارجي ,لكنها لا تملك القدرة على الحسم ,واذا كانت متفقة على اسقاط النظام فهي ليس لديها مشروع موحد لسوريا الجديدة,وقد بدأت مفاصلها تتفكك بين سوريين لهم اجندتهم الداخلية, وآخرين من اشتات العالم لهم اجنداتهم الأبعد مدى من سوريا وحدودها.
5- ان الحل السياسي هو الخيار الأوحد والأسلم لسوريا والسوريين,وإلا فإن الحرب مستمرة وقد تدوم طويلا طويلا حتى آخر سوري وآخر حجر على ارض سوريا.والحل السياسي لم يعد احجية تحتاج الى منجمين من مستوى رفيع ,وهو يقوم على عناصر باتت معروفة ,وهي بالتسلسل الزمني:

- وقف فوري لاطلاق النار على الاراضي السورية.
- مؤتمر دولي- اقليمي- محلي تشارك فيه كل عناصر الازمة الداخلية والخارجية.
- التفاهم على نظام سياسي جديد ينبثق عنه دستور يعتمد اوسع تمثيل شعبي لمكونات سوريا.
- تشكيل حكومة مشتركة تشرف على ادارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
- خروج جميع القوى المسلحة غير السورية عن الاراضي السورية.
- اجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مفتوحة لا تستبعد أحدا عن الترشح ,وباشرف دولي كامل.

صحيح ان هذه العناصر تحمل من التمنيات والطموح ما يخالف "الذوق العام" السائد,لكن الصحيح ايضا ان استمرار الحرب لن يؤدي فقط الى نهاية سوريا ,بل قد يجر العالم الى حروب كونية غير محسوبة النتائج ,وهو ما تحاول تفاديه الدول الكبرى الفاعلة ,والتي تقع عليها مسؤولية اخراج الحل السياسي السوري من عنق الزجاجة.

في الخلاصة يبدو أن الرهان على الخطاب السياسي المعتمد لدى بعض الحالمين, سيبقى رهانا.وقد بات واضحا ان مشكلة هؤلاء هي مع بشار الأسد بصورة شخصية,فماذا لو ذهب الاسد وبقي النظام على حاله؟ وهل هذه هي رغبة المعارضين السوريين الحالمين بنظام سياسي ديموقراطي حر متحرر من الفساد والقبضة الأمنية؟
          

واصف عواضة

04‏/09‏/2013

هل احترقت مراكب العودة؟

واصف عواضة- السفير - 4-9-2013
يبدو أن الصراع في سوريا وعليها، وكأنه بلغ مرحلة إحراق مراكب العودة. فلا التحالف الأميركي الغربي السعودي التركي قادر على التراجع عن ضربة عسكرية، حتى لو استهدفت مزرعة للدجاج، ولا الحلف الروسي ـ السوري ـ الإيراني في وارد التنازل عن الرد على أي ضربة، إلا إذا استنبطت القرائح الدولية صيغة مخرج كريم لكل الأطراف، يقود الى حل سياسي عبر مؤتمر جنيف الموعود.
البداية من واشنطن حيث يقف العالم على رٍجل واحدة، بانتظار قرار يتخذه رجل واحد قد يفضي الى كارثة دولية لن ينجو من آثارها أحد. لكن هذا الرجل، باراك أوباما، اثبت، «حتى الآن»، أنه ليس متهوراً، وأنه يحسب حسابات دقيقة لخطواته، لكنه قد يفعل العكس اذا ما ضاقت به السبل. هو لا يخفي ان أمن اسرائيل يأتي في الطليعة، وقد يكون وصل الى قناعة بأن خصومها مستعدون لقلب الطاولة على رؤوس الجميع. وعلى الرغم من الضجيج الإسرائيلي المنادي بالحرب على سوريا، فأغلب الظن ان اسرائيل نفسها لا تريد ذلك على قاعدة «دعوا العرب يقتلون بعضهم البعض بهدوء»، على حد ما اوردته صحيفة «يديعوت أحرونوت» قبل فترة. وحدهم المجانين (في نظر الكثير من الخبراء الإسرائيليين) من يحشر أنفه في الأزمة السورية ويتحمل أوزاراً غير محسوبة. إلا أن كل ذلك لا يغفر للادارة الأميركية تراجعها المهين عن وعودها بمعاقبة النظام السوري اذا لم يتأمن لها مخرج مشرف.
في دمشق يبدو ان كأس النظام قد امتلأ حتى النهاية، ولذلك هو يتعامل مع الأزمة على قاعدة «إما قاتل أو مقتول». وتنقل المصادر عن الرئيس بشار الأسد إنه لن يتوانى عن استخدام كل الأسلحة المتوفرة بين يديه، كل الأسلحة وفي كل الاتجاهات، اذا ما تعرضت سوريا لأي ضربة عسكرية. لم يعد عنده ما يخشى عليه بعد ثلاثين شهراً من الحرب الضروس التي دمرت سوريا وهجرت شعبها وعطلت دورها في المنطقة، وبضعة صواريخ بالزائد، بعد الضربة الأميركية، من هنا وهناك لن تزيد الطين بلة على قاعدة «ما لجرح بميت إيلام». لكنه في الوقت نفسه لا يقفل باب الحل السياسي على قاعدة انتخابات حرة، وليشرف عليها المجتمع الدولي كيفما يشاء.
في طهران ثمة من ينظر الى سوريا بأنها شريان الحياة في الشرق الاوسط للسياسة الإيرانية ومبادئها الثورية. طهران، التي اثقلتها العقوبات الدولية، سمع الموفدون إليها والزوار فيها من كبار المسؤولين الإيرانيين أنهم لن يتركوا سوريا وحدها، ولن يسمحوا بسقوطها مهما غلا الثمن ومهما ارتفعت التكلفة. وقد ردت طهران كل العروض التي رفعت إليها لغض الطرف وإقناع النظام السوري باستيعاب ضربة عسكرية حتى لو كانت شكلية. ويعرف الغرب أن إيران ستفعل، وأن إغلاق مضيق هرمز قد يكون في رأس الأهداف، ما يمنع ثلث بترول العالم عن الخروج من الخليج، ويرفع أسعار النفط الى مستويات جنونية في ظل ازمة اقتصادية عالمية سوف تتفاقم بما لا تتحمله الدول المستوردة.
في موسكو لم يعد القيصر الروسي واهناً ولا مربكاً بعد ان استعاد مجده التليد، ولا يزعجه مطلقاً ان تغرق الولايات المتحدة من جديد في وحول المنطقة. وعليه، هو يغطي حلفاءه سياسياً ويمد سوريا بالسلاح ولا يبذل أي جهد لإيجاد مخرج مناسب للإدارة الاميركية غير الحل السياسي المتوازن المستند الى مؤتمر جنيف. موسكو ليست مستعدة في النتيجة لخسارة آخر موقع لها في الشرق الأوسط وإطلاق العنان لـ«الإرهاب» في منطقة على خطوات منها، وهي التي عانت طويلا من شروره في القوقاز والشيشان وغيرهما.
وسط هذه الصورة تبدو السعودية وتركيا مع الضربة العسكرية لسوريا بلا حدود ولا محدودية، في موقف يبدو أقرب الى الثأر من بشار الأسد ونظامه، منه الى لعبة المصالح والحسابات. لكن هذا الموقف الذي بلغ أشده لا يقدِّم أو يؤخر في الحسابات الأميركية، حيث لا تنظر واشنطن في المنطقة أبعد من المصلحة الإسرائيلية، فضلاً عن مصالحها الإستراتيجية.
في الخلاصة، الأيام المقبلة حرجة ومقلقة ودقيقة، وقد تكون قمة العشرين في بترسبورغ في روسيا فرصة ثمينة لتفادي الحرب الشاملة، والانتقال الى مرحلة جديدة من التعاطي باتجاه الحل السياسي للأزمة السورية، الذي تبدو مؤشراته حتى الآن بعيدة المنال.

02‏/09‏/2013

من الحرب «المدروسة» إلى الحرب «المشروطة»!

واصف عواضة- السفير 2-9-2013
تريد الادارة الاميركية أن تضرب سوريا، لكنها في الوقت نفسه تريد هجوما محدودا لا تنزلق خلاله أو بعده الى حرب شاملة في المنطقة تتورط فيها الولايات المتحدة، على غرار الحرب على أفغانستان والعراق. وعليه أجرت الولايات المتحدة محادثات مع حلفائها والخصوم على السواء، لتحديد طبيعة هذه الحرب وأهدافها ونتائجها سلفا، في ظاهرة تبدو غريبة على منطق الحروب من جهة، وتحمل على السخرية من جهة أخرى. حتى أن بعض الخبثاء ارتأى على الرئيس أوباما دعوة الرئيس بشار الأسد الى اجتماع قمة ثنائية، يتفق فيه الطرفان على تفاصيل الضربة العسكرية وأهدافها ومداها وحدودها، ما دام الرئيس الأميركي متوجسا ومرتبكا وعاجزا عن اتخاذ القرار، وفي ذلك ما يجنّب المنطقة أوزار الحرب واثقالها.
واقعا «إن شر البلية ما يضحك». لكن ما لا يحتمل الضحك ان سوريا تدفع من جلدها وابنائها ثمن هذا الواقع المؤلم. فالامبراطورية العظمى تريد حربا «مدروسة» جداً، وطبيعي أن تتشاور مع حلفائها في آلية هذه الحرب، وسبق لها أن فعلت في حروب سابقة وفرضت عليهم المشاركة فيها، متحملين الغرم من دون الغنم. لكن أن تتفاوض أميركا مع خصومها في نتائج هذه الحرب من قبل أن تبدأ، فهي تريدها حربا «مشروطة»، وفي ذلك نوع من العنجهية غير المسبوقة من جهة والارتباك المحسوب من جهة ثانية، إذ لم يعد سرا أن واشنطن تتحادث مباشرة مع موسكو وتفاوضت بالواسطة مع طهران ودمشق في هذا الصدد.
تريد الولايات المتحدة توجيه ضربة لسوريا من دون أن تؤذي إسرائيل أو تطال آبار النفط. ضربة من دون اي رد فعل، تبقي مضيق هرمز مشرعا أمام الملاحة البترولية، ولا تمس شعرة من رؤوس حلفائها في المنطقة. ولأنها لم تضمن ذلك، فهي ترددت في اتخاذ القرار. بل اكثر من ذلك، هي لمست جدية حلفاء سوريا في الرد على اي عدوان، خصوصا ايران التي ابلغت من يعنيهم الأمر انها لن تتردد في ذلك ايا كان الثمن. ولذلك لم يكن مفاجئا لجوء الرئيس اوباما الى الكونغرس لتأمين الغطاء لخياره العسكري.
طبعا لا يستهين احد بقوة الولايات المتحدة وقدرتها على خوض الحروب وتحقيق الانتصارات، وواهم من يظن أن خصوم أميركا يستهينون بهذه القدرات، لكن الحسابات الأميركية للحروب لم تعد على غرار النزهات السياحية، ومن الطبيعي أن تدرس الإدارة الأميركية بكثير من التأني حروبها المقبلة، استنادا الى حروبها السالفة.على انه من الغباء النظر الى الإخفاقات الأميركية بشيء من النشوة الفارغة. فما تشهده المنطقة اليوم من فوضى عارمة، هو نتيجة لهذه الحروب والتدخلات الأميركية المباشرة وغير المباشرة، والتي أمنت لإسرائيل نوعا من الاسترخاء والاطمئنان.
ثمة أربعة جيوش عربية كانت تقلق إسرائيل بعدتها وعديدها، بعيدا عن الأنظمة التي كانت تقودها، استطاعت أميركا أن تدمر اثنين منها وتسعى الى تدمير الاثنين الآخرين. دمّرت الولايات المتحدة الجيش العراقي والجيش الليبي، وتحاول اليوم تدمير الجيش السوري، وواهم من يعتقد أن الجيش المصري مستثنى من هذه المعادلة. من هنا يمكن فهم الإدارة الأميركية في سعيها لإطالة أمد الحرب في سوريا الى ما شاء الله، وحتى آخر سوري. قد يقول قائل إن هذه الجيوش لم تكن تشكل خطرا على إسرائيل منذ حرب العام ١٩٧٣. وقد يكون في ذلك بعض المنطق، لكن من كان يضمن لاسرائيل ان تبقى هذه الجيوش الجرارة عدة وعديدا، محبوسة داخل قفص أنظمتها المحايدة او المهادنة، او المغلوب على أمرها.
في الخلاصة، لم تعد الضربة الأميركية لسوريا قدرا مكتوبا في ظل التردد الاميركي، وبات في امكان اوباما الانسحاب منها في إطار معادلة تضمن استمرار الحرب في سوريا من دون أن يتمكن احد من الحسم، على الأقل بانتظار تبلور المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، لتهريب «تسوية ما» في ظل انشغال الأطراف المؤثرة فيها، فضلا عن إنهاك الجيش السوري وتصفية المزيد من «الإسلاميين المتطرفين» الذين يقاتلون على ارض الشام. وفي كلتا الحالتين لن تضمن الولايات المتحدة بعد اليوم حصر الحريق في مكان معين، لكنها بالتأكيد لن تخسر الكثير، مقارنة بالخسائر اللاحقة بالمنطقة ودولها، بشرا وحجرا وخيرات مدفونة.

12‏/08‏/2013

انطباعات من طهران عن «الزمن الروحاني»

واصف عواضة- السفير 8 آب 2013
تضج طهران بالحركة والحياة. مدينة توازي مساحتها مع الضواحي نصف مساحة لبنان، يقطنها نحو 16 مليون نسمة. شوارعها مزدحمة بالسيارات ليل نهار على الرغم من شبكة الطرقات الحديثة التي باتت تربك السائقين. يكفي أن مليوني سيارة تسكن هذه المدينة العريقة، وتجعل الحصول على موقف في شوارعها ضرباً من المعاناة.
إنجازات الثورة خلال 33 عاماً أكثر من أن تعد وتحصى. حملات التشجير المستمرة حوّلت طهران إلى مدينة خضراء، بعدما كان هذا الامتياز حصراً على بعض أحيائها الشمالية، حيث قصور الشاه والحاشية.
أسواقها وبازاراتها مغرقة بالبضائع على أنواعها، على الرغم من حالة الحصار والعقوبات الدولية المفروضة على إيران وجمهوريتها الإسلامية. أماكنها السياحية تضج بالرواد، وتكاد مطاعمها تغص بالزبائن من كل الأعمار والأجناس. رجالها في حركة دائمة سعياً وراء رزق وإنتاج يحاول الغرب خنقهما بكل السبل. نساؤها يزرعن أنفسهن في كل القطاعات الرسمية والخاصة في واقع تبدو فيه المرأة الإيرانية أكثر تحرراً من أي دولة اسلامية أخرى، وفي إطار المظهر الشرعي للحجاب الذي تحوّل في الغالب إلى موضة أكثر منه التزاماً دينياً.
بعيداً عن الشكل الذي لا يقل أهمية عن المضمون، تقف طهران ومعها كل إيران على رِجل واحدة، بانتظار الآتي غداً بعد أمس صعب ما زالت تعيش حاضره المثقل بالأكلاف الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الحصار الدولي.
يعوّل الجميع بحذر على الرئيس الجديد حسن روحاني الذي تسلم مفاتيح الحكم يوم السبت الماضي من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وأقسم اليمين يوم الأحد أمام مجلس الشورى في احتفالية غير مسبوقة، حضرها ممثلون عن أكثر من 60 دولة، بينهم رؤساء دول ورؤساء وزارة ووزراء خارجية وسفراء.
وقد سارع روحاني خلال الاحتفال إلى تسليم رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني لائحة بحكومته التي كان أعدها خلال الفترة الانتقالية، وذلك لنيل الثقة خلال 15 يوماً.
لا أحد في طهران يعتبر مهمة الرئيس الجديد سهلة، إلا انه لا يختلف اثنان على أن روحاني سيُعطى فرصة لن تقل عن السنة من كل القيادات والمؤسسات الحاكمة، بدءاً بالمرشد الأعلى وانتهاء بمجلس الشورى، الذي لا يزال المحافظون يسيطرون عليه.
لكن من الواضح أيضاً أن الشعب الذي أعطى روحاني ثقة غير مسبوقة من الدورة الأولى، لن يرحم الرئيس وحكومته إذا لم تتمكن خلال هذه الفرصة من نقل البلاد إلى واقع جديد، أو على الأقل وضع الأسس المتينة لهذه النقلة. فالشعب الإيراني أرهقته السنون الماضية في ظل العقوبات الدولية، وهو يريد أن يخرج من هذا الواقع، لكن بكرامة ومن دون أثمان باهظة، وهذا ما وعد به روحاني، وهو أيضاً ما يجعل مهمة روحاني أبعد من أن تكون مفروشة بالحرير والورود والرياحين.
ولعله من الخطأ الجسيم اعتبار أن روحاني يتسلم بلداً منهاراً، بل على العكس من ذلك هو يمسك بدولة متينة تحكمها مؤسسات وقوانين واقتصاد لا يزال قادراً على تأكيد حضوره في الساحتين الداخلية والخارجية. ويعتقد المتابعون في طهران أن الحصار الدولي والعقوبات القاسية حفزت إيران وشعبها على المزيد من العمل والإنتاج. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير الإحصاءات إلى أن إيران صدرت العام الماضي إلى الخارج ما قيمته 22 مليار دولار من المنتجات البتروكيميائية فقط، في وقت لا تزال المواد الأساسية مدعومة من الدولة، حيث لا يتجاوز سعر صفيحة البنزين الأربعة دولارات أميركية، بعدما تمكنت الدولة من بناء المصافي والتوقف عن استيراد البنزين. وعليه يمكن القول إن روحاني يتسلم دولة كاملة المواصفات، وليس شبه دولة كما يتصور البعض.
يقول أحد المتابعين في طهران إن الإجازة المعطاة للرئيس الجديد للتحرك ستكون رحبة، لكنها لن تكون بلا سقف بل «تحت الكساء» على حد قول أحد الزملاء في طهران. فالتحرك مسموح في كل الاتجاهات، والتفاوض مباح مع الجميع (باستثناء إسرائيل طبعاً)، وكل ما يمكن إحرازه يكون خاضعاً للنقاش والتشاور مع المؤسسات العليا، وهذا ينطبق على التعاطي مع الخارج. أما الشؤون الداخلية، خاصة المتصلة بحياة الناس وهمومهم وشجونهم، فالهامش أمام الحكومة الجديدة أوسع من أن تحده حدود.
لكن المشكلة الأساسية أمام روحاني، هي أن الشؤون الداخلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأزمة مع الخارج. فلولا الحصار والعقوبات لاستطاعت إيران أن تحقق إنجازات أبعد من الخيال، ومع ذلك تمكنت خلال السنوات العشر الماضية من أن تنجز الكثير الكثير، وهذا يترجم قدرة القيادة والشعب الإيرانيين على مجابهة العواصف العاتية التي واجهتها الجمهورية الإسلامية الفتية.
لقد حرص روحاني على اختيار أعضاء حكومته من التكنوقراط المستقلين، أملاً منه في الابتعاد عن التناحر الحزبي داخل الحكومة، بما يعطل عملها (قد يكون استفاد من التجربة اللبنانية على الرغم من الفارق الكبير في طبيعتي النظامين). فغالبية الوزراء من أصحاب الخبرة في مجالاتهم، وسبق لهم أن شغلوا مناصب حساسة، ويبدو أنهم يحظون برضى شعبي واسع. وقد تُركت له حرية الاختيار بنسبة عالية جداً، وهو اتكأ في اختياره على مراكز القوى من كل الأطراف الإصلاحية والمحافظة، وإن كانت الغلبة في ذلك تميل إلى الرئيس الأسبق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي يبدو أنه استعاد حرارته السابقة في رعاية السلطة. ويلاحظ المراقبون نسبة عالية من الوزراء عملت تحت جناح رفسنجاني في مراحل سابقة.
في أي حال، تبقى العبرة في المستقبل. فالحكم على السلطة الجديدة لن يبنى على شخصياتها وكفاءتهم وخبراتهم، بل على إنجازاتها خلال المرحلة المقبلة. فالسلطة عادة تهز أكبر وأفضل الكفاءات والخبرات، وكم من مسؤول دخل حياضها مزهواً مرفرفاً واعداً، وخرج منها مهيض الجناح على قاعدة «نصف الناس مع الحاكم إذا عدل» فكيف إذا لم يعدل.
ثمة ملفات ثقيلة ستواجه حكومة روحاني، وقد وضعت لها الخطط المناسبة وتستدعي عدم تضييع الوقت، ويأتي في صدارتها ملف العلاقات الأميركية - الإيرانية، وهو الملف الذي يتوقف عليه مصير الكثير من الملفات الأخرى، من الملف النووي إلى ملف العلاقات العربية الإيرانية وسوريا ولبنان وفلسطين والدور الإيراني في المنطقة.
ويعتقد مصدر حسن الاطلاع في طهران، أن العلاج يبدأ من فوق، أي من واشنطن، وبعد ذلك تهون الأمور. إلا ان ذلك لا يمنع أن يبدأ التحرك من تحت، لسبر أغوار كل الملفات الأخرى. فالملف النووي في رأي هذه المصادر ليس العقدة الرئيسة بقدر الملفات السورية واللبنانية والفلسطينية، لأن الغرب بات يدرك جيداً سلمية الملف النووي، لكنه يضغط في مكان لإجبار طهران على التنازل في أمكنة أخرى.
لكن هذه الملفات ليست في يد الرئاسة بالمطلق كما هو معروف، بل تتولاها القيادة العليا مباشرة، وعبر ممثلين مختصين يمسكون بهذه الملفات، وهي تعتبر خطوطاً حمراء من الصعب اختراقها، خاصة في الملفين السوري واللبناني.
ويختصر مسؤول إيراني كبير كانت له صلة مباشرة بالملفات السورية واللبنانية والفلسطينية هذا التوجه بالقول «لن تسقط سوريا في يد الخصوم مهما غلا الثمن».
وفي الإطار نفسه، يبدو ملف «حزب الله» أكثر تشدداً بالنسبة إلى إيران، لدرجة أنه غير خاضع للبحث والنقاش والجدل، أيا كانت وجهة السلطة التنفيذية في الجمهورية الإسلامية.
وعلى الرغم من بعض الفتور الذي انتاب العلاقة بين إيران وحركة حماس في الفترة الأخيرة، فإن طهران لن تتخلى عن حركة المقاومة الفلسطينية، وتأمل أن تعدل حماس عن مواقفها، خاصة بعد انهيار نظام «الإخوان المسلمين» في مصر والذي كان يشكل رافعة لها وقد راهنت عليه قيادة الحركة بشكل واضح دفعها إلى مجافاة حلفائها في محور الممانعة.
وفي أي حال فإن فلسطين بالنسبة إلى إيران ليست موقفاً موسمياً، بل هي في صلب دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي ينص على «دعم نضال المستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم»، ( المادة ١٥٤)، على حد قول مسؤول إيراني كبير.
وكما في ملف العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن ملف العلاقات مع الدول العربية يحظى باهتمام الرئيس روحاني. وتعتقد المصادر أن العلاقات الإيرانية السعودية تأتي في صدارة الاهتمام باعتبارها المدخل الأساسي لمعالجة هذا الملف. ويرجح أن تكون الرياض باكورة التحرك الخارجي للرئيس الإيراني. وتلعب الكويت دوراً بارزاً في وصل ما انقطع بين السعودية وإيران، وهي سعت في الفترة الأخيرة إلى تحسين التمثيل السعودي في حفل تنصيب روحاني، من رتبة سفير إلى رتبة وزير.
ويعول المراقبون على انفراج العلاقات بين السعودية وإيران بما ينعكس إيجاباً على التسوية السياسية في كل من سوريا ولبنان، بعدما باتت الرياض وطهران على طرفي نقيض في هذين الملفين، ووسط قناعة الكثيرين بأن السعودية، أو بعض مسؤوليها، يلعبون دوراً بارزاً في عرقلة التسوية في البلدين.
في طهران الرهان كبير على «الزمن الروحاني»، لكن الحذر أكبر. فالجمهورية الإسلامية التي تفتح ذراعيها وتمد يديها للآخرين تريد تسويات كريمة، وهو ما ركز عليه الرئيس روحاني في خطبه وتصريحاته الأخيرة، لكنها تواجه خصوماً يريدونها بلا كرامة، ويريدون منها أن ترتد إلى نفسها، وأن تسحب يدها من كل الملفات في المنطقة، وهو ما ترفضه إيران بشدة، لأنه يفقدها طبيعتها ودورها ويلغي ثورتها ونظامها الذي دفعت أثماناً غالية للحفاظ عليه.
وبين إيران الشاه وإيران الخميني سوف تختار طهران إيران الخميني والثورة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، على حد تأكيد معظم المسؤولين الإيرانيين.
في الخلاصة، وبانتظار تبلور السياسة الروحانية ونتائجها، يتوقع الإيرانيون فترة من الاسترخاء، خصوصاً أن الولايات المتحدة أعربت عن رغبتها في التعاون مع الرئيس الإيراني الجديد لمعاجة الملفات العالقة. وإلى أن تتبلور الأمور يخلق الله ما لا تعلمون.

04‏/07‏/2013

جنازة الطائف في عهدة الطوائف

واصف عواضة- السفير الاربعاء 3 حزيران 2013
لم يعد من مجال لدفن الرؤوس في الرمال أو الاختباء وراء الأصابع. لقد مات اتفاق الطائف رسميا يوم الاثنين الماضي، وبات على اللبنانيين بلا أسف، تحضير جنازة له، ليس بالضرورة ان تكون لائقة، لأنه لم يكن على مستوى الآمال التي انعقدت عليه بعد تعطيل وتجاهل أبرز بنوده الآيلة الى إلغاء الطائفية السياسية.
مات الطائف وانتهت معه الجمهورية الثانية، وبات على اللبنانيين البحث عن جمهورية ثالثة تليق بدولة، «قبل أن يفتشوا عن وطنهم في مزابل التاريخ»، على حد قول الإمام موسى الصدر قبل نصف قرن من الزمن. فالدولة التي هي عماد الوطن ليست حكماً وحاكمين، بل هي مؤسسات يفترض أن ترتفع فوق السياسة والسياسيين، وهو ما تعتمده البلدان الراقية المستقرة. فأين لبنان من هذه الدولة وهذا الوطن؟
لقد تعطلت، أو تكاد، جميع مؤسسات الدولة الأساسية، ولم يعد من مؤسسة جامعة تستطيع التفاخر على أختها. رئاسة الجمهورية لا تملك من الصلاحيات الدستورية ما يسمح لها بالضرب على الطاولة وتصحيح المسار. مجلس النواب آيل الى التعطيل بفعل المشاحنات حول دستورية الجلسات. الحكومة مستقيلة وفي حالة تصريف الاعمال، ولا أفق واضحا لتشكيل حكومة جديدة. قيادة الجيش نحو الفراغ بعد تقاعد معظم أعضاء المجلس العسكري. قيادة قوى الأمن الداخلي يديرها وكيل الوكيل. المجلس الدستوري في إجازة بعد سطوة الطوائف عليه... والحبل على الجرار.
ليس ذلك إلا نتيجة حتمية للنظام الطائفي الذي كرّسه اتفاق الطائف القائم على الرفض والتعطيل. ففي ظل هذا النظام صارت كل طائفة تمون على أبنائها في مؤسسات الدولة، من النوّاب الى الحجّاب، وباتت مؤسسات الدولة المحسوبة على الطوائف تحفر القبور بعضها لبعض، أو تقيم المتاريس العالية في ما بينها. الكل يلقي المسؤولية على الكل، والبعض يحاضر في عفاف فقده من زمان ولم يعد لديه من شمّاعة يعلق عليها تراكمات العقود الماضية غير «حزب الله» وتدخله في سوريا. أخطأ الحزب أو أصاب، فقد فعلها بالأمس، لكن أزمة النظام في لبنان عمرها من عمر الاستقلال.
لبنان بحاجة الى نظام جديد يقوم على المواطنة، ومن دون ذلك لا يتأملن أحد باستقرار. لم يعد في قدرة الطوائف إنتاج تسويات دائمة في ظل النظام الحالي. وواهم من يعتقد أنه يمكن بناء دولة ووطن على أنقاض هذا النظام. وليس بالضرورة أن ينقلب اللبنانيون على نظامهم البائد بين ليلة وضحاها، فالألف ميل تبدأ بخطوة الى الأمام، فيما لبنان يسير كل يوم خطوات الى الوراء.
قد يصح القول في هذه المرحلة ان الهم العالمي اليوم في مكان آخر، وان لبنان ليس جزيرة معزولة في منطقة ملتهبة، وأن ما تشهده هذه المنطقة من تطورات، خصوصا في مصر وسوريا، أكبر من أن يلتفت أحد لنظام هذا البلد الصغير، لكن الصحيح ايضا ان نظام الطائف الذي مات سريرياً منذ فترة طويلة، بات اليوم فعليا في عداد الأموات، ومن المعيب وضع هذه الجثة في البراد، لأن إكرام الميت دفنه، كي لا يبقى أمل لدى المتمسكين به في إعادة إحيائه أو الرقص فوق جثته التي تتعفن يوما بعد يوم.

تحية الافتتاح