13‏/12‏/2011

«حزب الله» و«التيار الحر»: يربحان معاً.. أو يخسران معاً!

واصف عواضة- السفير 13 كانون الاول 2011
لم يعد سراً أن شوائب باتت تعتري العلاقة بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر». ثمة كلام قليل فوق الطاولة، لكن الكلام الكثير يجري تحتها وفي الكواليس المغلقة، الأمر الذي يستدعي نقاشاً صريحاً بين الطرفين وعلى أعلى المستويات.
لقد مضى ما يقرب من ست سنوات على توقيع التفاهم بين الحزب والتيار في كنيسة مار مخايل، وذلك في اللقاء الشهير الذي جمع السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون. ويبدو ان هذا التفاهم بات يحتاج الى «تحديث» وتشذيب ما علق به خلال السنوات الست الماضية التي شهدت تطورات كبيرة جداً، تعرض خلالها هذا التفاهم لأكثر من اختبار وراهن البعض على انفراطه لكنه صمد بفعل الكيمياء الشخصية التي تجمع «السيد» و«الجنرال».. والأهم القضايا الاستراتيجية التي ما تزال تجمع الرجلين وحزبيهما.
في الأساس واهم من كان يعتقد ببلوغ التكامل بين الحزب والتيار في كل القضايا الداخلية والخارجية، حتى أن قيادة الطرفين تركت من البداية هوامش للاختلاف. لكن الإيجابيات والفوائد التي حققها الطرفان من هذا التفاهم اكثر من ان تعد وتحصى، وليس صحيحاً أن «حزب الله» وحده هو الذي استفاد من هذا التحالف، كما يحاول بعض غلاة التيار الإيحاء.
صحيح أن التيار أمّن للحزب قاعدة مسيحية احتضنت المقاومة سياسياً وشكلت غطاءً لها في الكثير من المواقف، لكن الحزب شرّع الأبواب أمام التيار في الكثير من المواقع والأماكن والمحطات. ويعرف العونيون جيداً أن السيد نصر الله كان وما يزال في المفاصل الداخلية الصعبة يبلغ الجميع بحزم: «اتفقوا مع العماد عون وخذوا توقيعي جاهزاً على بياض».
يقدر الحزب تقديراً عالياً، وكذلك جمهور المقاومة، المواقف الجريئة والصلبة التي وقفها العماد عون في اللحظات المصيرية، وهو لا يمكن أن ينسى موقفه الذي بلغ حد المغامرة في حرب تموز، فبات «الجنرال» في قلوب المقاومين وعقولهم واحداً من عناوين المقاومة الكبرى. ويتفهم الحزب جيداً منهجية التيار في التعاطي مع القضايا الداخلية، خصوصاً أن العناوين التي يطرحها تكاد توازي العمل المقاوم ضد إسرائيل، لا سيما على صعيد بناء الدولة العادلة ومكافحة الفساد وإصلاح الإدارة وتحقيق إنجازات على المستوى العام تكرس تغييراً واضحاً في مسيرة البلد. ولا يختلف الحزب مطلقاً مع التيار في هذه العناوين، بل هو يحسد التيار على حريته المطلقة في طرح هذه القضايا والقتال في سبيلها من دون مراعاة «زيد أو عمر» من الناس او من القوى العاملة على الساحتين الداخلية والخارجية. وبالتالي فإن الحزب لم يتوان في معظم الأحيان عن دعم التيار قولاً وعملاً في هذه العناوين، لكنه في بعض الأحيان يجد نفسه مكبلاً بقيود تقض مضجعه وتحمله على التأني ومراعاة الواقع وتجرع الكأس المرة تجنباً للكأس الأمرّ.
على الحزب ان يراعي الحيثيات التي تدفع الضرر عن المقاومة بحيث لا يكون جسدها مشرعاً للعواصف، ولا رأسها تحت مقصلة الأعداء وهم كثر، فإذا سقطت المقاومة في هذه المرحلة، لن يكون هنالك حزب ولا تفاهم ولا تحالفات.
على الحزب أن يراعي الواقع داخل الطائفة الشيعية. فالصدام داخل الطائفة خط أحمر لأنه يعيد المقاومة الى نقطة الصفر ويكلف الكثير من المعاناة، ولذلك فهو حريص على التحالف مع حركة «أمل» والرئيس نبيه بري، الذي يعرف طبيعة العلاقة بينه وبين «الجنرال»، على الرغم من بعض الظواهر التي توحي بالتفاهم.
على الحزب أن يراعي واقع الساحة الإسلامية بما يحول دون إغراقه في فتنة مذهبية دفع الكثير من الأثمان من أجل تجنبها، ومع ذلك يبدو خصومه في هذا المضمار أطول باعاً منه وأكثر قدرة على استفزازه ودفعه الى وحول هذه الفتنة.
على الحزب أن يراعي العلاقة مع رئيس الدولة الذي كانت له وما تزال مواقف مشهودة الى جانب المقاومة على الرغم من الضغوط الدولية والعربية الكثيرة التي تمارس عليه، وهو يعرف في الوقت نفسه أن علاقة رئيس الجمهورية برئيس التيار ليست على خير ما يرام.
على الحزب أن يراعي الواقع الحكومي وهو يعرف أن استقالة الحكومة في هذه المرحلة إنما هي قفزة في المجهول في ظل التركيبة النيابية غير المضمونة للأكثرية الحالية.
على الحزب أن يراعي نجيب ميقاتي من موقعه كشريك سني، وعلى الحزب أن يراعي وليد جنبلاط من موقعه كشريك درزي أيضاً.
على الحزب أن يراعي الوضع في سوريا والتغيرات العربية المتسارعة التي يدفع ضريبة بعض مواقفه تجاهها. وعلى الحزب أن يراعي الكثير من الظروف المحيطة بواقعه، والتي يبدو التيار متحرراً منها. لقد خسر الحزب معركة تمويل المحكمة الدولية وآثر الانحناء أمام العاصفة التي كان يمكن ان تلفه بجناحيها وتدفعه الى أتون معركة ليس الأوان أوانها ولا الظروف مؤاتية لخوضها.
قد يكون الحزب أخطأ او تسرّع في معركة تصحيح الأجور داخل مجلس الوزراء بموافقته على القرار الذي تمخضت عنه الجلسة، من دون أن يرفض مشروع التيار الذي قدمه وزير العمل شربل نحاس، لكنه بدا في اليوم التالي وكأنه أحس بالخديعة فاندفع رافضاً القرار عبر مؤسساته النقابية والتربوية. إلا أن هذا الخطأ لا يستوجب بعض المواقف المتوترة التي يتم تسريبها عبر الإعلام على لسان مصادر في التيار الحر الذي لم يعمد إلى نفيها او تكذيبها. لكن الحزب يؤمن أن العماد عون لا يستسيغ هذه التسريبات, وأن ما يربط «السيد» و«الجنرال» أكبر من أن تهزه التفاصيل الصغيرة.
في المقابل، لا يستطيع «التيار الحر» أن يستمر في المعارك الخاسرة داخل الحكومة بفعل التسويات التي تطبخ على نار حامية ويصار الى إخراجها في اللحظات الأخيرة, لأن الرصيد الذي حققه خلال السنوات الماضية في طريقه الى التآكل, وهو يفضل ألف مرة أن يخوض معاركه من موقع المعارضة على أن يكون عاجزاً عن تحقيق ما يصبو اليه من داخل السلطة. وعليه يتطلب الوضع الحكومي وقفة جدية من كل أقطابها لوضع خريطة طريق واضحة تخرجه وتخرج البلد من حالة الجمود التي راحت تضغط على الأكثرية وجمهورها والمواطنين بشكل عام... والمدخل الى ذلك رزمة مشاريع إصلاحية وسلة تعيينات إدارية تحدث صدمة إيجابية في التيار وعند جمهوره الكبير.
في أي حال لم يعد مناسباً أن يدفن الحزب والتيار رأسيهما في الرمال ويتغاضيان عن الشوائب التي تعتري العلاقة بينهما. ثمة نقاش صريح يفترض أن يبدأ بين الطرفين على اعلى المستويات, يقوده السيد نصر الله والعماد عون، للتفاهم على مقتضيات المرحلة المقبلة بجميع تفاصيلها. فمعادلة المقاومة والإصلاح معاً هي المدخل الأساس لبناء الوطن, وواهم من يعتقد أن الفكاك بين الحزب والتيار يستفيد منه طرف على حساب الآخر, كما يحلو للبعض ان يتصور. فبعد ست سنوات على هذا التحالف، يربح الحزب والتيار معاً.. أو يخسران معاً.

30‏/11‏/2011

حكومة «كلهم على حق» و«سياسة جحا»!

واصف عواضة
السفير 30 نوفمبر 2011
يُروى عن «جحا» ان جارا له دخل عليه ذات يوم شاكيا ظلم جاره الآخر، فاستمع اليه باهتمام وقال له «معك حق». ثم ان جاره الآخر جاءه شاكيا جاره الأول، فقال له ايضا «معك حق». وهنا هبّت زوجة «جحا» غاضبة من هذا التصرف الذي اعطى الحق لجارين متناقضين، فرد عليها قائلا: وأنتِ معك حق ايضا.
استنادا الى هذه الرواية يرى بعض الخبثاء ان حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تنطبق عليها «سياسة جحا»، حتى ليكاد يصفها بـ«حكومة جحا». فكل أقطابها وأركانها «على حق» في ما يذهبون ويصبون اليه، وهي تواجه اعمق ازمة تهدد مصيرها واستمرارها على خلفية تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
«حزب الله» على حق في موقفه من المحكمة، اذ لا يعقل ان يوافق على تمويل مؤسسة يرفض وجودها من الاساس ويعتبرها اسرائيلية وهدفها تشويه سمعة المقاومة توطئة لضربها والقضاء عليها، من قبل ان تتهم عناصر منه صراحة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد اعلن الحزب اكثر من مرة على لسان امينه العام انه غير معني بهذه المحكمة ولن يتعامل معها، ومن الطبيعي ان يرفض تمويلها.
الرئيس نجيب ميقاتي بدوره على حق في اصراره على التمويل. فرئيس حكومة لبنان لا يستطيع ان يحمل دم سلفه رفيق الحريري من خلال رفض حكومته تمويل المحكمة الناظرة في قضية اغتياله. وبالتالي ليس من طبع الرجل مواجهة المجتمع الدولي والعقوبات التي قد يتعرض لها لبنان جراء ذلك، فضلا عما يجرّه عليه هذا الأمر من عزل له داخل طائفته التي تبقى الغطاء الاخير لمستقبله السياسي في بلد كلبنان محكوم بنظام طائفي، وهو يعرف سلفا ان هويته الطائفية هي التي تقوده الى رئاسة الحكومة، ايا كانت الكفاءات والمهارات والخبرات السياسية والشخصية والخلقية التي يتمتع بها، وكذلك الارصدة الشعبية والمصرفية.
«تكتل التغيير والاصلاح» بقيادة العماد ميشال عون ايضا وأيضا على حق في ما يرمي اليه. فالرصيد الذي يتمتع به «التيار الوطني الحر» في الساحة المسيحية ليس نابعا من عصبية طائفية، بل من حجم الانجازات التي يحققها على مستوى ساحته ومن ثم الساحة اللبنانية بشكل عام. وهو يعرف ان خصومه في الساحة المسيحية يتفوقون عليه في شد العصب الطائفي. رهانه الوحيد على مواقفه وإنجازاته على المستوى السياسي والاقتصادي والاداري الى آخر السلسلة. وهو بالتالي لا يستطيع ان يقاتل احدا بحكومة فاشلة هو شريك اساسي فيها، ولا يمكنه الذهاب الى الانتخابات بمثل هذه الحكومة. وعليه يفضل الف مرة ان يخوض الانتخابات من موقع المعارض. ولذلك كان التصور من الاساس ان التيار العوني سيلجأ الى فرط الحكومة اذا لم تحقق الانجازات التي وعد وتعهد بها امام جمهوره خاصة واللبنانيين عامة.
النائب وليد جنبلاط على حق. هو ينتظر تبلور الظروف الخارجية ليبني استراتيجيته السياسية، ولن يغرق طائفته الصغيرة مرة أخرى في الرمال اللبنانية المتحركة.
الرئيس نبيه بري ايضا على حق. هو يحاول جاهدا تفادي انهيار الهيكل الحكومي الذي يشكل نوعا من ضمان الاستقرار في البلد وسط منطقة مضطربة. يفتش عن مخرج لا يقتل الذئب ولا يفني الغنم. تحالفه مع «حزب الله» والمقاومة خط أحمر لن يغامر به ايا تكن الظروف، والاسباب كثيرة لا تعد ولا تحصى. يسعى بحنكته المعهودة لإيجاد المخرج المناسب. والرئيس ميشال سليمان على حق. يهمه دوام الاستقرار في ما تبقى من ولايته بأي ثمن. هو يحظى اليوم بإجماع سياسي في البلد، لأنه يسير بين النقاط غير المتجانسة بعناية فائقة، مستفيدا من تجربة اسلافه على رأس الدولة.
حكومة هؤلاء اركانها (كلهم على حق) يفترض ان يسودها حد أدنى من التفهم والتفاهم لعبور درب الجلجلة بأقل كلفة، بما يمكنها من ادارة الأزمة ريثما يقضي الله أمرا كان مفعولا. فمنذ تشكلت هذه الحكومة، لم يكن الخوف عليها وما يزال من المعارضة، انما من نفسها، وها هي تؤكد هذه النظرية. وأحرى بها ان تتجاوز قطوع التمويل وتلتفت لهموم الناس وتغلق آذانها على الضجيج المباح، على غرار ما فعل جحا مع ولده والحمار.

31‏/10‏/2011

حيـث تـرعـى الغـزلان

واصف عواضة
السفير 31 ت1 2011
لم يعد الحديث عن الحوار والمصالحة بين السنّة والشيعة ضربا من الترف الفقهي والمذهبي بين الشريحتين الكبيرتين في الطائفة الاسلامية، بل أمسى ضرورة سياسية تستدعي المسارعة الى طرحها عمليا ليس على المستوى اللبناني الضيق، بل على الصعيد العربي والعالمي الاوسع، قبل ان تستفحل الأزمة ويتطاير شررها بفعل فاعل، ليحرق الكثير من المناطق المختلطة.
ليس في هذا الكلام شيء من المبالغة. ومن يتنازل ويرصد بعض المحطات التلفزيونية والاذاعات والمواقع الالكترونية المتنامية كالفطر، ثم يراقب المواقف السياسية والروحية لبعض مدعي العلم والفقه والمعرفة، يشعر بالنار الكامنة تحت الرماد. ولا يمنع ذلك من الاقرار بأن غالبية المسلمين في العالم تنبذ هذا التوجه، لكن الرائج ان تفاحة واحدة فاسدة تضرب سلة بكاملها.
وما من شك ان ما يسمى «الربيع العربي» أسهم الى حد كبير في تأجيج حالة الحذر بين السنّة والشيعة، وهي تتفاقم يوما بعد يوم لترتفع الى مستوى التوتر الشديد. وليس سرا ان اصطفاف غالبية الشيعة الى جانب النظام السوري وغالبية السنة الى جانب النظام في البحرين، فاقم في تصاعد حدة التوتر، على الرغم من اصطفاف الطرفين بصورة شبه اجماعية الى جانب الثورات في مصر وتونس وليبيا.
وليس سرا ايضا ان الجمهورية الاسلامية الايرانية هي الشماعة التي يعلق عليها الكثير من أهل السنة أسباب التوترات في العالم العربي بين المعتقدين الاسلاميين.
في المحصلة واهم من يعتقد ان طرفا من الفريقين قادر بعد على إلغاء الآخر، على الرغم من حملات التحريض والفتاوى المشينة التي تصدر من هنا وهناك وهنالك، تغذيها بعض الدوائر الدولية لأهداف سياسية لا تخفى على أحد.
فمهما قيل في «الخطر الايراني المحدق بالعالم العربي»، لن تستطيع طهران ابتلاع او تشييع اكثر من مليار سني في العالم، ولا هي قادرة على احتلال العالم العربي من محيطه الى خليجه حتى لو كانت لديها نيات «فارسية « جامحة. ومهما تعاظمت حملات التحريض على ايران وحلفائها، ليس في مقدور أحد ابادة اكثر من ثلاثمئة مليون شيعي في العالم، ولو صدرت ألف فتوى بتكفيرهم، على غرار ما حصل في ازمان بائدة.
هي اذن ليست حربا إلغائية. انها حرب باردة خطيرة جدا تعبر عن نفسها بثقافة تباعدية اكثر خطورة، تواكبها بعض حالات الانعزال والانزواء والهجرات الطوعية والقسرية احيانا، على طريق الفتنة الكبرى التي تستحضر حرب الجمل ومعركة صفين من اعماق التاريخ.
حيث ترعى الغزلان بين السنة والشيعة، مطلوب مبادرة سريعة يتنكب لها العقلاء في العالم الاسلامي، بالدعوة الى حوار صريح تتبعه مصالحة حقيقية تقوم على تفاهم وثوابت لا تحتمل التأويل.
ولعل من الحكمة ان يتولى مؤتمر القمة الاسلامية هذه المهمة ويخرج بقرارات تاريخية تطمئن الجميع. والاولى ان تبدأ طهران خطوات جريئة باتجاه محيطها العربي والخليجي على وجه التحديد، لتطمين دوله وساسته وشعوبه وسحب الذرائع من ايدي المبشرين بالفتن في العالم العربي وخارجه.
ومن لبنان ثمة خطوة مكملة لذلك تقوم على عاتق «حزب الله»، تتجاوز الحالة اللبنانية الضيقة، عبر حوار جدي ووصال لا ينقطع مع الحركات الاسلامية الناشطة في العالم العربي، وهو بدأ خطوات خجولة في هذا الاطار، لكن المطلوب تفعيلها وتطويرها كي تحاكي المستجدات الاخيرة، ولكي تعود صورة السيد حسن نصر الله الى البيوت العربية، مشرقا ومغربا، تماما كما كانت لسنوات خلت. ولا يعفي كل هذا حركة «حماس» بالذات من مسؤولية سياسية وأخلاقية بتعبيد الطريق أمام هذه المبادرة التاريخية.

25‏/10‏/2011

أي لبنان في عصر الإسلام السياسي؟

واصف عواضة
السفير -25 ت1 2011
ليس في مقدور لبنان بعد الآن ان يتباهى بأنه «الواحة الديموقراطية» الوحيدة في الوطن العربي، ولا ان يباهل أحدا بفرادته وميزته التي بنى عليها أمجادا تليدة في هذا الشرق الذي يشهد تحولات تاريخية تخرجه من عصر الانظمة الاستبدادية الى النظم الديموقراطية التي ستكون بالتأكيد، ولأكثر من سبب، أقل سوءا من الديموقراطية اللبنانية العريقة.
غير ان هذه الديموقراطيات الناشئة والمحفوفة بالحذر، تلبس رداء قد يرفع من حدة الهواجس لدى بعض اللبنانيين، سواء الذين ينشدون الدولة العلمانية، او اولئك الذين يحلمون باستعادة دور يقولون انه كان قائما في الماضي، وقد اسهم في اطلاق النهضة العربية القديمة، ويريدون المساهمة في النهضة الجديدة . فهل غاب عن بال هؤلاء ان الديموقراطيات العربية الوليدة، كلها يغلب عليها طابع الاسلام السياسي وعصره الممهور ببركة الغرب العلماني الذي يقول البطريرك الماروني بشارة الراعي انه ابعد الدولة عن الدين، بدل ان يبعد الدين عن الدولة.
ها هي تونس تشهد اول انتخابات نظيفة في تاريخها، لكنها تخرج من نظام أوغل في العلمانية حتى خالف الشريعة الاسلامية في بعض مضامينها، الى نظام تتصدره «حركة النهضة» الاسلامية التي يقول رئيسها راشد الغنوشي انها ستكون منفتحة.. ولكن العبرة في التنفيذ.
وها هو رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل يعلن تحويل ليبيا الى دولة تلتزم الشريعة الاسلامية، آخذا على عاتقه في خطاب التحرير اباحة الزواج الرباعي وإلغاء الفوائد الربوية في المصارف.
وها هم «الاخوان المسلمون» في مصر يعلنون انهم لن يستأثروا بالسلطة، في اشارة الى انهم قادرون على ذلك، ولا شيء يضمن عدم فوزهم الساحق في الانتخابات المقبلة وإدارة شؤون البلاد وفق الشريعة الاسلامية التي تترك مكانا للآخرين.. ولكن بحدود.
وها هو «حزب الدعوة» في العراق يحكم البلاد بزعامة نور المالكي، مهما قيل في تنوع النظام العراقي وتعدديته. اما الانظمة التي لم تتهاو بعد فإن منتفضيها يرفعون بلا مواربة راية الاسلام، من الاردن الى سوريا واليمن وموريتانيا، فضلا عن السودان الذي يتجلبب نظامه بالشريعة، وكذلك المغرب الذي يحكمه امير المؤمنين وخليفة المسلمين. وتبقى دول الخليج كتحصيل حاصل في هذا المضمار.
في ظل هذا الزمن العربي، زمن الاسلام السياسي المنبهر بالتجربة التركية، يجد لبنان نفسه على مفترق طرق. فالمسلمون فيه، شيعة وسنة، يتأثرون دائما بمحيطهم العربي وبالتطورات التي يشهدها، ولا شيء يضمن في المستقبل عدم بروز قيادات تكسر قاعدة التعايش الراهنة القائمة على المناصفة، مهما غالت مرجعياتهم اليوم في تأكيد هذه القاعدة والتمسك بها.
اما المسيحيون اللبنانيون فمن حقهم اليوم ان يقلقوا. لكن التعبير عن هذا القلق يتفاوت بين رؤية عقلانية يطرحها البطريرك الراعي، ونظرة حالمة تريد «استعادة دور المسيحيين التاريخي في الشرق والمساهمة في اطلاق نهضة عربية».
قد يكون من المبكر استشراف المستقبل، لكن التحسب له ضرورة راهنة بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين على وجه الخصوص، حيث ضمانتهم الأكيدة في تفاهمهم أولا مع شركائهم في الوطن، قبل القفز الى الاسهام في النهضة العربية المغلفة بألف سؤال وسؤال. والله من وراء القصد.

19‏/10‏/2011

إلى أجمل الأمهات

واصف عواضة
كان مشهداً رائعاً ذلك الذي حضر في غزة ورام الله أمس في استقبال قوافل الأسرى الفلسطينيين العائدين من ظلمة السجون الى نور الحرية.
عذراً... لا يستطيع أن يقدّر أو يفهم حقيقة هذه اللحظة اكثر من الأسير وأهله، خصوصا تلك الأم التي انتظرت ابنها طويلاً وعاد..هي أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، لكنه لم يعد مستشهداً.
ما زلت اذكر جيداً ذلك اليوم الذي خرجت فيه من الأسر الاسرائيلي في تموز عام 1973 بكل بهجته ومشاعره.لكن ما يعلق في داخلي منذ ثمانية وثلاثين عاماً، ذلك الصباح الاول من الحرية الذي أفقت فيه مذعوراً وأنا أجد والدتي تنام عند قدمي, وقد احتضنتهما بكل حنان الأم وشوقها الى وحيدها.عانقتها طويلاً وبكيت وبكت وانهمرت دموع اشعر انها ما زالت عالقة على خديّ حتى اليوم.
وأخبرني الزميل والصديق حلمي موسى عن ليلة الإفراج عنه بعد سنوات الأسر الطويلة، اذ وصل الى منزل ذويه في غزة بعيد منتصف الليل، فقامت والدته من توّها وعمّرت «مِقلى السمك» في تلك الساعة المتأخرة من الليل، لأنها تعرف ان حلمي يحب السمك المقلي، فلم تتأخر عن تلبية رغبته المكبوتة.
عشرات الأمهات في غزة ورام الله انتظرن ابناءهن أمس بتلك المشاعر الفياضة. وعشرات الأسرى في الوقت نفسه عادوا فلم يجدوا أمّا في انتظارهم، لأن القدر خطفها في غيابهم، قبل ان يولدوا من جديد. لكن كل أم فلسطينية كانت تشعر امس انها والدة أسير. كل الأمهات الفلسطينيات في الوطن والشتات بكين أمس دموع الفرح. كل الآباء شعروا من جديد بالأمل. كل المقاومين الفلسطينيين راودتهم أمس نوبة التحرير والحرية. لم ينغصّهم بالطبع كلام نتنياهو وباراك وكل ما فيه من حقد اسود. كل الفلسطينيين في الداخل كانوا يصرخون في داخلهم مع الصديق الشاعر حسن عبد الله والفنان مارسيل خليفة.. يهتفون لأجمل الامهات:
صامدون هنا
قرب هذا الدمار العظيم
وفي يدنا يلمع الرعب في يدنا
في القلب غصن الوفاء النضير...
صامدون هنا... صامدون هنا
باتجاه الجدار الأخير
وفي يدنا يلمع الرعب في يدنا
في القلب غصن الوفاء النضير
صامدون هنا... صامدون هنا

17‏/10‏/2011

زيادة الأجور «زواج بالإكراه»

واصف عواضه
ليس مفهوما حتى الآن لماذا تصر الحكومة على مضمون قرارها زيادة الاجور، رغم معرفتها الكاملة رئيسا ووزراء، بأنه مضمون خاطئ وظالم وغير عادل، ويسبب خللا في البنية التنظيمية للهيكلية الوظيفية، في ما يتعلق بالرواتب التي تزيد عن مليون وثمانمئة الف ليرة وتقل عن المليونين ومئة ألف. ولعل أغرب ما قيل في تصحيح هذا الخلل، ما ذكره وزير المالية بأن هذا الأمر يعالج لاحقا بين العمال وأرباب العمل، في وقت ترفض الهيئات الاقتصادية الزيادة جملة وتفصيلا، حتى ليصح هنا المثل الشعبي المخجل: «يا طالب الدبس...».
الكل يعرف ان قرار الحكومة اتخذ على عجل في عتمة الليل تحت ضغط الاضراب الذي هدد به الاتحاد العمالي العام، وكان ثمة تخوف أفصح عنه الرئيس نبيه بري لاحقا، من اعمال شغب سترافق الاضراب وتضرب الاستقرار في البلد «القاعد على كف عفريت». لكن كانت ثمة فرصة لتصحيح الخلل بعد تعليق الاضراب وخلال جلسة مجلس الوزراء مساء الاربعاء الماضي في قصر بعبدا، خاصة بعدما تكشفت الامور بشكل واضح أمام الحكومة، وعوّل الجميع على الجلسة، ولكن من دون جدوى وبقيت الحكومة على موقفها.
والواضح ان قرار زيادة الاجور يشبه «الزواج بالاكراه». فالعريس متحفظ، والعروس رافضة، والاشقاء غير متحمسين، والجيران ينصحون. وحدهما والدا العروسين مصران على عقد القران لغاية في نفس يعقوب، ومن دون شرح او تفسير المبررات، رغم معرفتهما المسبقة بأن هذا الزواج لن يفضي الى حياة هانئة وسعيدة، ويشكل بالتالي سابقة كارثية على «العشيرة».
في أي حال الفرصة ما تزال سانحة للتصحيح قبل صدور المرسوم وفرضه على الجميع، وما قد يترتب على ذلك من مراجعات لدى مجلس شورى الدولة قد تفضي الى كسر القرار الحكومي. وثمة سبيل واحد الى ذلك، يتلخص في التراجع عن قرار الزيادة جملة وتفصيلا، والعودة الى المشروع المتطور الذي اعده وزير العمل شربل نحاس، ووضعه جديا على طاولة النقاش، على ان يُعطي الاتحاد العمالي العام والهيئات النقابية فرصة جديدة للحكومة لاتخاذ القرار الصائب الذي يرضي جميع الاطراف. والتراجع عن الخطأ ليس عيبا بل هو من باب الفضيلة التي تشرّف الحكومة والاتحاد العمالي معا. وليس غريبا على الرئيس نجيب ميقاتي ان يعتمد الحكمة سبيلا الى صون الحكومة والبلد معا، وهو يعرف سلفا ان الزواج بالاكراه لا يجوز شرعا.
وفي كل الاحوال، لم يكن ينقص الاتحاد العمالي الا هذا الارتباك ليثبت ان صلاحيته قد انتهت، تماما كما تنتهي صلاحية المواد الغذائية بتقادم الزمن. ولعل من باب الفضيلة الاعتراف بذلك، على الرغم من المعطيات السياسية التي تحكم مسيرته وتحمل العقلاء على طلب الغفران له. لقد انتهج الاتحاد على حد قول رئيسه قاعدة «خذ وطالب»، وهي قاعدة مشروعة في العمل النقابي، لكنه اكتشف وسيكتشف اكثر انه لم يأخذ سوى كرة نار ستحرق أصابعه، وقد تحرق البلد مستقبلا بفوضى اجتماعية ومعيشية لن ينجو منها أحد.

03‏/10‏/2011

القلـق البطريركـي

واصف عواضة- السفير 3 ت1  2011
كان مؤسس «الكتائب» الراحل الشيخ بيار الجميل يردّد مقولة ثابتة مؤداها: «لا تقل للمسيحي لا تخف، بل أمّن له الضمانة كي لا يخاف» وكان خصوم الكتائب وحلفاؤها يسخرون دائماً من هذه المقولة التي باتت خبزاً مملاً للشيخ بيار في التصريح اليومي المنسوب اليه في اذاعة «صوت لبنان»، لكن هذه المقولة كانت واحدة من الذرائع التي دفعت «الكتائب» للجوء الى إسرائيل والتعاون معها وتسهيل أكبر حروبها في لبنان، واختراق النسيج اللبناني بصورة مكلفة ما تزال تداعياتها قائمة حتى الآن.
اليوم ثمة من ينسج مقاربة بين مقولة الشيخ بيار ومواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي القلق على مصير المسيحيين في لبنان والمنطقة، وان بصورة معاكسة لكن المفارقة ان من يقارب في هذا الأمر هو من خارج البيت الكتائبي وامتداداته في الصف المسيحي ويستدعي هذا الواقع نوعاً من المصارحة تقود الى فهم سيد بكركي ورؤيته المستقبلية للشأن المسيحي في المشرق.
لعله من المبالغة القول إن رؤية الراعي تنطلق من خوف على مستقبل النظام السوري و«حزب الله» بقدر خوفه وقلقه على المسيحيين في سوريا ولبنان والمشرق، فالبطريرك مار بشارة الراعي لا ينقلب على مواقف المطران بشارة الراعي، راعي ابرشية جبيل وتوابعها، بل هو يقرأ في كتاب التطورات التي تشهدها المنطقة منذ نهاية العام المنصرم، مستفيداً من الاحداث التي شهدها العراق منذ الغزو الاميركي لهذا البلد.
إن التعمق قليلاً في رؤية البطريرك يفضي الى تحليل منطقي على النحو الآتي:
1- ان سوريا تشهد احداثاً تاريخية مرتبطة بما يسمى «الربيع العربي»، وهي ستقود الى احد احتمالين: اما صمود النظام وخروجه قويا من هذه المعركة، او انهيار النظام وتقسيم سوريا الى دولتين متناحرتين على الأقل، واحدة سنيّة واخرى علوية. في الحالة الاولى سوف يحفظ النظام مسيحيي سوريا الذين يربو عددهم على المليونين، تماماً كما حفظهم خلال العقود الاربعة الماضية وربما طوال حكم حزب البعث الذي اسسه المسيحي ميشال عفلق، اما في الحالة الثانية فلا ضمانة لمسيحيي سوريا بين جماعتين مسلمتين متصارعتين، تماما كما حصل في العراق الذي هجره اكثر من مليون مسيحي نتيجة هذا الصراع. وقد كان النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم واضحاً وصريحاً في مقابلة تلفزيونية قبل اسبوعين، عندما رأى ان الدولة العلوية في سوريا جاهزة وقائمة في حال انهيار النظام، تقابلها دولة لها الطابع الاسلامي السني ولم يقل المطران مظلوم ان المسيحيين سيذهبون «فرق عملة» بين الدولتين، لكن هذا المصير يقرأ من عناوين الكلام المباح والواضح ان البطريرك اختار الاحتمال الاول، على الرغم من الثمن السياسي المفروض على هذا الخيار.
2- في الشأن اللبناني يبدو ان البطريرك يقرأ في الكتاب نفسه فـ«حزب الله « حليف النظام السوري، اثبت بالتجربة انه حليف مخلص ووفي للمسيحيين، خاصة ان مهادنته ومصالحته اقل كلفة بكثير من مكاسرته ومخاصمته، وان استقرار لبنان في المرحلة المقبلة متوقف على التفاهم بين طوائف لبنان كافة، وبالتحديد مع المجموعة الشيعية، وبعكس ما كان يتصور سلفه.
لقد اختار البطريرك الطريق الأقل كلفة للمسيحيين في لبنان والمشرق، في معادلة دقيقة بين الاتزان والتهور، مدعوماً كما يبدو من الكرسي الرسولي في الفاتيكان، وغامر بعلاقته مع الغرب الاوروبي والاميركي الساعي لإسقاط النظام السوري و«حزب الله»، متجاوزاً «الحالة الثورية» التي ما تزال تراود قسماً من المسيحيين في لبنان. صحيح انه موقف جريء، لكن نسبة التعقل فيه أكبر من نسبة الجرأة.

23‏/09‏/2011

مشروع الفرزلي وأحلام الزمن الضائع

 
واصف عواضة
السفير 23 ايلول 2011
يطرح المشروع الانتخابي الذي يسوّقه دولة الرئيس ايلي الفرزلي باسم «اللقاء الارثوذكسي»، اخفاقات جيلنا واحباطاته، ومحاولاته البائسة خلال اكثر من اربعة عقود من الزمن، للخروج من النظام الطائفي وبناء بلد يقوم على المواطنة، لا فضل فيه لعربي على عجمي الا بالتقوى.
المشكلة ان الرئيس الصديق الذي يملك من الحجج والمستمسكات يكاد يقنعنا بمشروعه الانتخابي القائم على تولي كل طائفة انتخاب نوابها بنفسها، وعلى قاعدة النسبية والدائرة الواحدة، بما يشبه حقنة «مورفين» تذلل الاوجاع والآلام، لكنها لا تقضي على المرض. وأخشى ما نخشاه في هذا الزمن الرديء، ان يتمكن الفرزلي ذات يوم بحنكته ودهائه السياسي، من اقناعنا بهذا المشروع الذي يعني الانتحار او الموت الرحيم تخلصا من المرض العضال.
والمشكلة الأكبر ان رجلا كالفرزلي، لا يستطيع أحد التشكيك بوطنيته وقوميته، وهو سليل عائلة ارثوذكسية لم تعرف التطيف والتمذهب، وهو شخصيا لم نألفه قارئا في الكتاب الطائفي.لكن الرجل كما يبدو بلغ به اليأس والاحباط مبلغا يجاري خيبات جيلنا، ما دفعه الى الدعوة للخروج من الطائفية المقنعة التي يعيشها البلد الى طائفية معلنة، على قاعدة القاء النفس في النار لاطفائها، او على حد قول الشاعر «كالمستجير من الرمضاء بالنار».
على ان المشروع يوجب النقاش دفعا لرفض ان يتحكم به المزاج والنكد السياسي والسلبية غير المنتجة. قد يكون الفرزلي محقا في ان المشروع برنامج مرحلي يفجّر الطوائف من الداخل بصورة ايجابية وصولا الى اعادة جمعها في بوتقة الوطن، ولكن الا يعتقد دولة الرئيس انه يفكّك آخر الروابط الوطنية في البلاد ويشجع على تعزيز الكانتونات الطائفية، ويحوّل ملوك الطوائف والمذاهب الى آلهة يقبضون على ازمّة جماعاتهم، يمنحون البراءة والشفاعة ويصدرون التراخيص الى جنات عدن، تماما كما كان يفعل الكرادلة في القرون الوسطى؟ وبالتالي متى كان اصحاب السلطة يتخلون عن عروشهم لوجه الله الواحد الأحد؟
عندما نشرّع انتخاب الطوائف والمذاهب لنوابها في البرلمان، ماذا نقول للقوميين والوطنيين والعلمانيين (وهم ليسوا بقلّة)؟ الا يعني ذلك تهميشهم وعزلهم وابعادهم عن الحياة السياسية داخل البرلمان وخارجه ايضا؟ أم أن المضحك المبكي يكون في استنباط طوائف ومذاهب جديدة في البلد بعنوان «الطائفة العلمانية اوالقومية أوالوطنية ؟»
يعرف الرئيس الفرزلي ان قانون الانتخاب الحالي اعاد لبنان خمسين سنة الى الوراء وشكّل مخالفة فاضحة لاتفاق الطائف. فهل يعيدنا المشروع الجديد مئتي سنة الى التاريخ الذي كانت فيه كل طائفة تعتمد قنصلا اجنبيا لحمايتها من مثيلاتها في الوطن؟
لا يتسع المجال لمزيد من النقاش في هذه المقالة، لكن من حق جيلنا ان يستمر في الحلم بوطن، على الرغم من الزمن الذي ضاع هباء منثورا طوال العقود الماضية. ومن حق الشهداء الذين سقطوا على نسائم هذا الحلم ان يحاسبونا ولو من باب اللوم والعتب. من حق كمال جنبلاط وغيره ان يحمدوا الله على غيابهم قبل ان يشهدوا مآلنا وأحوالنا. ومن حق زميلنا ومفكرنا نصري الصايغ حامل لواء العلمانية وقائد «البيت العلماني» ان «يخبط طربوشه بالارض» ويصرخ مع الشاعر: «رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره صرت أبكي عليه».

19‏/09‏/2011

الجدال البيزنطي لايضيء شمعة واحدة

واصف عواضة
ما من لبناني واحد مقتنع بأن النقاش الدائر حول مشروع الكهرباء هو نقاش تقني مالي بريء من دم السياسة. لكن «الشعب اللبناني العنيد» المقيم في الظلمة منذ نحو عشرين عاماً، منقسم حول جناحي السياسة في البلد، لدرجة توحي بأن كل فريق يفضل انتصار فريقه السياسي في هذه المعركة على عودة الكهرباء أربعاً وعشرين ساعة وانتهاء عصر الظلام في لبنان.
حبذا لو أن كل المشاريع الحيوية في البلد حظيت خلال العشرين عاماً الماضية بمثل هذا النقاش الدقيق الذي يدور حول مشروع الكهرباء اليوم، لكنا وفرنا جانباً مهماً من الدين العام الذي يرزح تحته لبنان، او على الأقل بقي الكثير من هذه المشاريع في الأدراج، وغابت عن معظمها الشبهات التي يتداولها السياسيون بين الفينة والأخرى. بالتأكيد كان المرحوم رفيق الحريري طلّق الحكومة وفضل ان يهجر البلد الى غير رجعة.
حتى الآن يمكن القول إن فريق المعارضة نجح في استدراج الحكومة والاكثرية النيابية او بعضها الى جدال بيزنطي عقيم، في وقت يعجز فريق الموالاة عن اقناع جمهور المعارضة بمشروعه الذي يطال هذا الجمهور بالخير والنور. ويستنتج من هذا الواقع احد أمرين: اما ان المعارضة تتمتع بوافر الحنكة والدهاء والذكاء، وهذا ليس نقيصة في العلم السياسي، واما ان اهل المشروع عاجزون عن الدفاع عن قضيتهم بسبب الأداء الذي رفع الموضوع الى مستوى التحدي السياسي، فيما هو تحدّ معيشي اجتماعي انساني يطال الشعب اللبناني بأكمله. وأغلب الظن أن الأمرين صحيحان، وان كان فيهما بعض الظلم للطرفين. وفي الخلاصة تبدو المعركة سياسية بامتياز، والناس متأطرة حول الفريقين. والمشكلة ان الناس تريد ان تأكل العنب وتقتل الناطور.
غير ان الجدل البيزنطي الدائر حول المشروع لن يضيء شمعة واحدة. وهذا يفترض بالحكومة وأكثريتها النيابية اللجوء الى الحسم السريع في هذا المجال لأن المشروع قضية عامة بامتياز لا يستفيد منها فريق دون آخر، ولأن الورشة الحكومية المثقلة بالمتطلبات المعيشية والادارية والسياسية تبدو عالقة عند ابواب وزارة الطاقة ومشروع الكهرباء. وهذا ايضاً يتطلب، اول ما يتطلب، سحب البساط السياسي من تحت المشروع الذي صار مشروع الحكومة وليس مشروع جبران باسيل الذي تصرّ المعارضة كما يبدو على إسقاط هذه الورقة من يده ويد جنراله وتكتله. وقد يكون من الأجدى أن يتوقف تكتل التغيير والإصلاح عن الدفاع عن هذا المشروع ويترك للحكومة مجتمعة هذه المهمة.
في اي حال، عشرون عاماً من الظلام في لبنان باتت كافية جداً كي تتوقف الطبقة السياسية عن ممارسة الترف السياسي في ما يتعلق بحياة الناس، خصوصاً أن المنطقة على كف عفريت، ولبنان ليس بجزيرة معزولة عنها. وفي هذا السياق فإن اي حكومة تعيد الكهرباء كاملة للناس تستحق لوحة تكريمية على صخور نهر الكلب الى جانب لوحة الجلاء. فهل تحقق حكومة الرئيس نجيب ميقاتي هذه الأمنية له وللبنانيين معاً؟

14‏/09‏/2011

قصة خط خلوي برسم وزير الاتصالات

واصف عواضة- السفير
قال لي موظف شركة الهاتف الجوال الشهيرة في مصر: لدينا ثلاثة انواع من الخطوط، فأيا منها تريد؟
قلت: اريد الخط الذي يسهّل لي الاتصال خلال زيارتي القصيرة لمصر.
قال: عليك بخط «إيزي».
سألت من باب الترف: هل استطيع استخدامه خارج مصر؟
اجاب: نعم وفي كل بلاد الدنيا. انه خط «رومينغ».
بعد استكمال الاجراءات التقليدية وعملية تسجيل الخط الجوال قال الموظف: خمسة وثلاثون جنيها مصريا (نحو ستة دولارات اميركية).
همست في سري: خط هاتف جوال ودولي (رومينغ) بستة دولارات فقط؟
لم تنته الحكاية عند هذا الحد. طلبت تعبئة الخط (تشريج) بأقصى حد حتى لا اضطر الى تعبئة الخط بصورة شهرية. قال لي الموظف «تستطيع التشريج بمائتين وخمسين جنيها مصريا (نحو اثنين واربعين دولارا اميركيا)».
بعدها جاءتني رسالة بصوت انثوي ناعم تقول: «تنتهي صلاحية هذه التعبئة في 31 مايو (ايار) في العام 2014. ويرجى اعادة التحميل قبل هذا التاريخ حتى لا تضطر الى دفع خمسة جنيهات كرسم لاعادة تشغيل الخط».
لا يحتاج الأمر الى تعليق اذا ما قورن بتكاليف الهاتف الجوال في لبنان، حيث تؤكد الوقائع الدولية انها الاعلى والاغلى في العالم، فضلا عن انهاء صلاحية الخط خلال شهر واحد على الاقل وثلاثة اشهر على الاكثر بتكلفة تصل الى خمسة وسبعين دولارا اميركيا، من دون توفير الخدمة الخارجية للخط (الرومينغ).
طبعا لا تنفرد مصر بمثل هذه الخدمة المخفضة جدا لتكاليف الهاتف الجوال. فمعظم دول العالم تنهج هذا المنحى، بحيث بات الهاتف الخلوي وسيلة شعبية جدا، الا في لبنان حيث التكاليف ما تزال خيالية. فقبل سنتين كنت عائدا من سيراليون في افريقيا عبر غانا حيث امضيت ثلاثة ايام في عاصمتها أكرا. وقد دفعني الترف الى شراء خط هاتفي جوال من احد «الاكشاك» على قارعة الطريق بما يعادل دولارا واحدا فقط، وأكملت «التشريج» بسبعة دولارات, واستخدمته طوال الايام الثلاثة بمكالمات خارجية، ومع ذلك لم تنفد الدولارات السبعة ولا انتهت صلاحية الخط منذ ذلك التاريخ.
يعرف اللبنانيون المقيمون في الخارج حجم العروض التي تقدم في مجال الهاتف الجوال، بحيث لا تشكل التكاليف الا النزر القليل من مداخيل الناس. وبالتأكيد يعرف وزير الاتصالات في لبنان هذه المعلومات، مثلما يعرفها وزراء الحكومة ورئيسها بالذات الذي كان يمتلك احدى اكبر شركات الهاتف الخلوي في العالم. ومع ذلك كانت التخفيضات التي اقرتها الحكومات والوزارات المتعاقبة على تكاليف الهاتف الجوال دون الحد الادنى المطلوب، مع ان هذه التخفيضات باعتراف وزراء الاتصــالات زادت مداخيل الوزارة من هذا القطاع.
ليس معقولا ولا مقبولا ان يتكبد اللبناني شهريا حدا ادنى اجباريا من الكلفة على الهاتف الجوال يقدر بنحو خمسة وعشرين دولارا اميركيا، وإلا تنتهي صلاحية الخط ويُرمى في سلة المهملات. ولا يجوز ان يتكبد اللبناني الف دولار اميركي بدل تأمين لاستخدام خطه الجوال خارج الاراضي اللبنانية (الرومينغ). ولا تمكن مقارنة تكاليف الهاتف الجوال بالحد الادنى للاجور في لبنان، على اساس انه اعلى من الدول المجاورة ودول افريقيا.
صار من الضروري ان تتوقف الحكومة اللبنانية امام تكاليف الهاتف الجوال باعتبار انها تملك شركتي الهاتف الخلوي، ولم يعد من الجائز اعتبار هذا القطاع مصدرا رئيسيا للدخل في لبنان، ومقايضته بخسائر الكهرباء، مع العلم ان التخفيضات والعروض المحفزة على استخدام الجوال لم يثبت انها شكلت تراجعا في الدخل، لكنها على الاقل تشجع الطبقات دون المتوسطة على امتلاك واستخدام الهاتف الجوال وتوسيع الشبكات وزيادة المكالمات في الداخل والخارج. وعندها يمكن للبناني ان يتنفس المزيد المزيد من «الهواء الخلوي» الذي تبيعه الدولة للناس.
القضية برسم وزير الاتصالات نقولا صحناوي الذي يطمح الى خطوات تعزز شعبيته ومستقبله السياسي!

12‏/09‏/2011

مدافع البطريرك وملوك الطوائف

واصف عواضة
لا يملك بطريرك الموارنة مدافع ولا صواريخ ولا حتى أسلحة خفيفة يقاتل بها الآخرين، شأنه شأن بابا روما الذي كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين يسخر من مواقفه السياسية. لكن البطريرك يملك قوة معنوية لها تأثيرها السحري في الساحة السياسية التي غالبا ما تنقسم حول مواقفه وآرائه المتعلقة بالشأن العام. وعليه، نادرا ما أجمع الموارنة على زعيمهم الروحي، حتى انه نُسب الى الرئيس كميل شمعون ذات يوم كلام هدد فيه بأنه "سيجعل العشب ينبت على طريق بكركي"، في اشارة الى مقاطعة الصرح البطريركي. وفي هذا السياق ليس البطريرك الحالي بشارة الراعي اول من يواجه هذه الحالة نتيجة مواقف صريحة أدلى بها في باريس، ويعتقد انها تنسجم مع الواقع القائم في لبنان والمنطقة، ومن شأنها حماية المسيحيين الذين تعرضوا في العقود الماضية لحملة تهجير منظمة من كل دول المشرق. ويتضح في هذا المجال ان المشكلة ليست في البطريرك الماروني بقدر ما هي في الموارنة أنفسهم الذين يريد كل فريق منهم ان يشد لحاف بكركي الى سريره، ليغطي مواقفه السياسية التي يتصف بعضها بالتهور في محاكاة الاحداث في المنطقة، والرهان على المجهول الذي غالبا ما أثبت عقمه. وليس أدل على ذلك من اغتباط فريق من الموارنة اليوم بوصف مسؤول اميركي رفيع (على ذمة الناقل) مواقف زعيمهم الروحي بأنها "نافرة ومتهورة". صحيح ان ما ينطبق على بطريرك الموارنة يكاد ينسحب على مفتي السنة الذي تعرض في الآونة الأخيرة لهجمة شرسة من بعض أهله جراء إظهار بعض التوازن في مواقفه، لكن الهالة التي تُلقى عادة على كاهل بكركي، انطلاقا من أن "مجد لبنان أعطي لها"، تحمّل البطريرك وزر الكلمة التي يطلقها في الشأن العام، أيا كانت وجهتها أو خط سيرها، وتربك بالتالي أي مسعى توفيقي له، سواء أكان على مستوى الطائفة ام على مستوى الوطن. لقد راهن البعض على الراعي لقيادة تسوية تاريخية على مستوى لبنان انطلاقا من الشعار الذي أطلقه عند تنصيبه (شراكة ومحبة)، إلا انه من الواضح في ضوء ردود الفعل التي تواجه مواقفه الاخيرة في الداخل والخارج، ان ثمة من يرفض أي دور متوازن لبكركي في هذا المجال اذا لم يكن منسجما مع تطلعاته ورهاناته. وليس سرا القول ان دور بكركي في هذا المجال تم تعطيله منذ زمن، لأن البيت الماروني اساسا ليس حاضرا لرعاية مثل هذا الدور الوفاقي وتغطيته. والواضح ان مدافع البطريرك لن تقوى على ملوك الطائفة المارونية، مثلما تعجز مدافع الرؤساء الروحيين قاطبة عن ملوك الطوائف في لبنان. وهذا يطرح من جديد علة النظام الطائفي في لبنان، حيث يستخدم الدين وسيلة وغطاء لكل الممارسات الشائنة، ما يحول دون بناء وطن نظيف ودولة محترمة في نظر أبنائها وفي نظر الآخرين. وفي هذا المجال يبدو محرّما على بطريرك الموارنة، وعلى غيره، النظر الى الامور بشيء من الواقعية والمنطق، تجنبا لسقوط الهيكل مرة أخرى على رؤوس الجميع، وتحديدا رؤوس المسيحيين.

01‏/09‏/2011

حكومة ما بعد العيد

واصف عواضة
عندما قَبِل الرئيس نجيب ميقاتي تكليفه رئاسة الحكومة، كان يدرك جيدا حجم المشاكل التي يمكن ان تعترضه، ويدرك ايضا حسابات الربح والخسارة على المستوى السياسي للعائلة الميقاتية التي من حقها ان تطمح الى زعامة ثابتة بحجم الطائفة والبلد. وعندما شكل حكومة الاكثرية الجديدة على النحو الذي تيسّر بعد الاخفاق في إطلاق حكومة وحدة وطنية، كان ميقاتي يدرك اكثر فأكثر حجم الخسارة الشخصية والعائلية التي يمكن ان يتكبدها إذا فشلت هذه الحكومة في تحقيق إنجازات سريعة على المستوى الوطني العام، لا سيما في المجالات المعيشية التي تطال حياة الناس مباشرة.
قد يكون الرئيس ميقاتي العائد من «رحلة التأمل» الى مكة المكرمة في حالة مراجعة دقيقة للحسابات بعد مرور خمسة وسبعين يوما على تشكيل الحكومة ونحو ثمانية اشهر على التكليف، من دون ان تتمكن هذه الحكومة من تحقيق إنجاز وازن يشكل رافعة لاستمرارها. صحيح ان حجم المشاكل التي تواجه هذه الحكومة كبير جدا لما ورثته من أحمال الحكومات السابقة، وصحيح ان الوضع الداخلي المفكك والكيدي يعرقل الانجازات، وصحيح ان الوضع الاقليمي لا يساعد على تيسير مسيرة الحكومة، لكن الصحيح ايضا ان التشكيلة الحكومية المركبة وغير المتجانسة والتي ظهرت خلافاتها في اول بند جدي على جدول اعمالها، ترفع من حدة الهواجس بأن هذه الحكومة قد يكون عمرها أقصر بكثير مما تترقبه المعارضة وتعيش على أحلامه.
تتشكل هذه الحكومة من خمسة فرقاء اساسيين، بينهم فريقان لا يحتملان المماطلة وتقطيع الوقت والفشل، لأنهما في السياسة لا يستطيعان الذهاب الى الانتخابات النيابية المقبلة بحكومة فاشلة. وتحت هذا العنوان يمكن فهم التوتر الذي يعتري الموقف السياسي للعماد ميشال عون وفريقه في تكتل التغيير والاصلاح. ومن هنا فإن التهديد بالاستقالة من الحكومة ليس تهويلا من جانب هذا الفريق الذي سيكون مبررا نفَسُه القصير في الصبر على على حالة الجمود. واذا كان الرئيس ميقاتي اكثر صبرا وأطول نفَسا من فريق الجنرال، فإنه يعرف ايضا انه محكوم بفترة محدودة وغير مفتوحة.
وفيما يبدو وليد جنبلاط الرجل الاقوى داخل الحكومة ومجلس النواب معا ويدير حساباته السياسية على هذا الاساس، يتحمل الثنائي الشيعي في الحكومة أعباء النهوض بها وانتشالها من السقوط المبكر، من خلال سعيه المضني لتسوية الخلافات. لكن الفريقين يتمتعان في النهاية برصيد شعبي غير قابل للصرف. ومن هنا تلقي الازمة على الرئيس ميقاتي وفريقه عبء اجتراح الحلول والتسويات المناسبة لإطلاق ورشة العمل الحكومي، وفي طليعة ذلك موضوع الكهرباء الذي يبدو ان هذه الورشة باتت متوقفة على حسمه بصورة ايجابية، لأن «حكومة ما بعد العيد» لا يمكن ان تكون أو تستمر على حالة حكومة ما قبله. فالجميع يدرك سلفا أن حكومة تصريف الاعمال الناجمة عن حكومة مستقيلة، سيكون عمرها مديدا جدا، وستعيش البلاد والعباد ظلاما أشد حلكة من ظلام التقنين الكهربائي. وكل عام وأنتم بخير.

تحية الافتتاح