04‏/01‏/2011

أبـو مـاهـر اليماني: ضميـر فلسـطيـن

واصف عواضة
السفير  5 كانون الاول 2010


ما كان «أبو ماهر اليماني» يشتهي الانتقال الى جوار ربه في ظروف أسوأ من هذه الظروف التي تمر بها فلسطين والأمة العربية من محيطها الى الخليج. ربما لذلك آثر الرحيل، حسبه أنه لن يشهد المزيد من حالة التفكك والانحلال والمصائب والويلات المقبلة على هذه المنطقة التي كانت ميدانه النضالي لأكثر من ثمانية عقود. وليس من باب المبالغة القول ان الكثيرين من مجايلي ابي ماهر يؤثرون الرحيل في هذه المرحلة، على العيش في مستقبل عربي يحمل المزيد من الخزي لهذه الأمة، بحكامها وانظمتها ومفكريها وناسها أجمعين.

عن ستة وثمانين عاما رحل أحمد اليماني أمس، عاش خلالها الزمن العربي الجميل والزمن الرديء، وعاشت فلسطين معه منذ وعى على هذه الدنيا في قريته «سحماتا» في قضاء عكا، شأنه شأن كل فلسطيني حيث القضية في جسده مرض عضال لا يشفيه الا العودة أو.. الموت. وها هو الموت يشفي ابا ماهر من مرضه العضال.

والحق يقال ان ما من عربي شريف الا ويتمنى ان يكون أحمد اليماني بصفاته ومناقبه التي ميزت هذا الانسان الكبير. فهو المناضل الثائر النظيف العفيف الشريف الطاهر الودود النقي الزاهد الخلوق المتواضع، والرفيق الذي أسر قلوب جميع معارفه في فلسطين ولبنان والوطن العربي الواسع منذ ما قبل انخراطه في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان أحد ابرز مؤسسيها الى جانب صنوه ورفيق دربه الراحل الكبير جورج حبش. وهو في الوقت نفسه الفلاح النقابي المتفاني في خدمة الطبقات العمالية والفقيرة التي اعطاها الكثير الكثير من تجربته الطويلة. وباختصار لا غرو ان يُلقّب ابو ماهر اليماني بـ«ضمير فلسطين» من دون منازع، تماما كما هو سليم الحص، أطال الله في عمره، «ضمير لبنان».

يوم مات جورج حبش كان المرض قد فعل فعله في ابي ماهر، لكنه أبى الا ان يُحمل الى مقر الجبهة الشعبية في مخيم مار الياس ليتقبل التعازي مع رفاق الدرب. كانت في مقلتيه دمعة جافة، فهو رغم حنانه وعاطفته الجياشة لم يألف الدموع. لكنه أحس منذ ذلك اليوم أن أحمد اليماني قد مات، لأن رحيل «الحكيم» أفقده شهوة الحياة.

عرفت ابا ماهر اليماني في ريعان الشباب، يوم كانت الأحلام كبيرة والآمال عريضة، وتعلمت منه الكثير، فكان هذا الرجل يدهشني بهدوئه وصبره وجلده وطول أناته، فما عرف اليأس يوما. في مذكراته التي نشرها قبل سنوات كتب ابو ماهر اليماني: «قرأت ما تيسر لي من غزوات التتر والفرس والرومان، والإفرنج والأتراك لبلادنا العربية واستخلصت درساً مفاده أن الشعب المؤمن بحقه وعدالة قضيته يواصل ويواصل الكفاح، لا يساوم ولا يفرط ولا يستسلم، لا بد أن ينتصر مهما طال الزمن».

كان لبنان ميدانه الاوسع. عاش فيه اكثر من ثلثي عمره فأحبه واستقر فيه مع عائلته الطيبة، ومارس فيه كل انواع النضال الجسدي والذهني. وبالتأكيد سيفقد اللبنانيون «ابا ماهر اللبناني» مثلما يفقد الفلسطينيون «ابا ماهر الفلسطيني»، فهو لم يسئ يوما الى وطنه الثاني، بل اساءه جدا ان يسئ أحد الى هذا البلد ولو كان من ابناء جلدته. عزاؤنا في ابي ماهر تلك السمعة الطيبة العطرة، كخير ارث يحمله الابناء عن الآباء. فإلى عائلته الكريمة، الى السيدة الفاضلة ام ماهر، والابناء والبنات ماهر ومهند وثائر وعصام وفادي وآمال وفدا وهيفاء، والى شقيقه الصديق الحبيب ماهر اليماني، والى كل محبيه، أحر التعازي، وانا لله وانا اليه راجعون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحية الافتتاح