26‏/11‏/2012

شــــكـراً غـــزة

واصف عواضة- السفير 24 تشرين الثاني  2012
يُفترض ببلد طبيعي يتمتع بكامل قواه العقلية ان يتعمق جيدا في نتائج الحرب الأخيرة على غزة، ليستفيد من دروسها البالغة القيمة وليبني إستراتيجيته المستقبلية على هذا الأساس. لكن بلدا كلبنان يحكمه الجنون السياسي والحقد والنكد والفساد وشهوة السلطة، لا يُعوّل ولا يُراهن على أهله في تحقيق شيء من هذا، لأن بعضهم يقرأ في كتاب صدر قبل حرب غزة، بل قبل التاريخين الهجري والميلادي.
من غير الطبيعي أن تكون الأحداث الأخيرة في غزة لحظة عابرة في روزنامة اللبنانيين. بل من الطبيعي ان تكون هذه الأحداث بندا أساسيا في أي حوار لاستخلاص الدروس والعبر والبناء عليها لرسم الإستراتيجية الدفاعية الموعودة، هذا إذا كانت إسرائيل في نظر جميع اللبنانيين عدوا غير مأمون الجانب و لها أطماع في ارض لبنان كما يحلو للبعض ان يصفها في قصائده السياسية.
يقتضي المنطق اجراء مقارنة جغرافية وعسكرية وسياسية بين غزة ولبنان لاستخلاص هذه العبر:
- في الجغرافيا تقع غزة على مساحة لا تزيد عن 350 كيلومترا مربعا، بطول اربعين كيلومترا وعرض يتراوح بين 8 و10 كيلومترات. يحيطها الكيان الصهيوني من ثلاث جهات، وسيناء المصرية من جهة واحدة. ارض منبسطة ليس فيها جبل ولا واد. محاصرة من كل الجهات. يستطيع الاسرائيلي بالعين المجردة أن يرصد كل حركتها وأن يراقب اهلها ومقاوميها، وهو يحكم السيطرة على جميع معابرها، من البر والبحر والجو.
في المقابل، تبلغ مساحة لبنان ثلاثين ضعفا من مساحة غزة، وهو يتمتع بتضاريس طبيعية صعبة جدا، من وهاد عميقة الى جبال شاهقة، بحيث يصعب على اجهزة الرصد الحديثة مراقبة جميع تحركات أهله ومقاوميه. ارضه مفتوحة على العالم برا وبحرا وجوا، تجاوره دولة تستطيع أن تمده بكل احتياجاته.
- عسكريا يشكل امداد غزة بالسلاح حالة تشبه المعجزة في ظل واقعها الجغرافي. ومع ذلك تسلّحت غزة بآلاف الصواريخ والقذائف المدفعية والسلاح الخفيف، وقاتلت وصمدت امام عدو يفوق ميزانها العسكري بمئة ضعف. وليس من الانصاف بشيء المقارنة بين المقاومة في غزة والمقاومة اللبنانية، لجهة الصعوبات وحجم السلاح والتدريب وحرية الحركة والجغرافيا العسكرية التي يتمتع بها المقاومون اللبنانيون، وهذا بحد ذاته يشكل نقطة ايجابية لصالح المقاومة اللبنانية.
- سياسيا، لم تكن غزة بأفضل حال من لبنان. وإلى أن تتحقق الوحدة الفلسطينية على مستوى السلطة، لا يجب ان يحسد اللبنانيون غزة ولا الفلسطينيين على واقعهم السياسي. صحيح أن الشعب الفلسطيني يكتشف مقاومته من جديد ويعرف أن التسويات السلمية لن تحقق اهدافه التاريخية، ولكن وحدته السياسية تحتاج الى كثير من العمل والجهد والوقت.
السؤال الوجيه في هذه المرحلة، من سيذهب الى حضن من: مقاومة غزة أم سلطة «ابو مازن»؟ اما اللقاء في منتصف الطريق فليس سهلا، لأن ثمة من أحرق مراكب العودة الى النضال منذ زمن طويل. وليس بالضرورة أن يكون فريق المقاومة هو الأقوى في هذا المجال، الا اذا قرر الشعب الفلسطيني أن يخلع عنه رداء السلطة الوهمية.
في الخلاصة، اذا كانت هذه الـ«غزة» المحاصرة الفقيرة المحدودة بإمكاناتها، الصغيرة بأرضها، الكبيرة بأهلها ومقاومتها، استطاعت أن تلوي ذراع اسرائيل في أسبوع واحد، فهل يستطيع هذا العدو أن يلوي ذراع لبنان بمقاومته الجبارة بعديدها وسلاحها وغطائها الشعبي والسياسي وبجغرافيتها الصعبة؟
لقد كانت معجزة غزة بالدرجة الأولى درسا لإسرائيل يحمي لبنان وأهله، ويجب أن تكون عبرة جديدة للبنانيين اللاهثين وراء نزع سلاح المقاومة. لا يعني هذا أن زمن الحروب قد ولّى الى غير رجعة، أو أن الاعتداءات الاسرائيلية لم تعد واردة، بل بات على اسرائيل أن تدرس خطواتها جيدا، فقبل غزة كان على العدو أن يحسب الف حساب للبنان ومقاومته، وبعد غزة عليه ان يحسب مليون حساب.

16‏/11‏/2012

قبل أن تحترق صيدا مجدداً!

واصف عواضة
قاسيا وحازما وصريحا كان السيد حسن نصر الله في خطابه الاخير. لقد «بلغ السيل الزبى» ولم تعد المهادنة تنفع في مخاطبة الآخر الذي تخطى كل الحدود. هكذا يفترض الذين استمعوا الى الخطاب وقرأوا فيه أكثر من رسالة الى من يعنيهم الأمر.
المحازبون والأنصار وجمهور المقاومة كلهم في حالة غليان. «مهدئات» الأمين العام بات مفعولها خانقا. التطاول على «السيد» والمقاومة والحرمات لم يعد مقبولا مواجهته بـ«التطنيش» والأذن الطرشاء. يقول أحدهم: «الفرقة الموسيقية التي شاركت في مهرجان «يوم الشهيد»، أكثر عددا من أنصار الشيخ أحمد الأسير، فلماذا السكوت على استفزازاته وتحدياته وتطاوله؟ من قال لهم ان العقل يجب أن يحكم الامور دائما؟ صحيح ان العقلاء كثر في «قوى 8 آذار»، ولكن ثمة مجانين ايضا».
لقد شكلت الأحداث الأخيرة في صيدا مفصلا بالغ الأهمية في حياة المدينة وأهلها، وفرصة للتأمل في مستقبلها الذي قد يكون على كف عفريت اذا ما تقاعس المعنيون عن وضع حد لمحاولات الفتنة. حتى الأمس القريب كان مقبولا الحراك السلمي المدني للشيخ الأسير وأنصاره على الرغم من نتائجه السلبية على المدينة. وقد تعاطى معه الآخرون بكثير من الحكمة والعقل والاستيعاب، لكن دخول السلاح الى ساحة الحراك بدّل المعطيات ووضع ثلاث نقاط على آخر السطر. فالسلاح يستدعي السلاح، والدم يستجلب الدم، وواهم من يتخيل أن ثمة مجالا لخلق معادلة جديدة في هذه المدينة.
ان صيدا ليست طرابلس، واستقرارها ليس مطلبا جامحا لأهلها فقط. هناك نصف مليون جنوبي وفلسطيني يعبرون هذه المدينة أسبوعيا، وهي ليست عاصمة الجنوب والمقاومة من باب الفولكلور. وعليه ليس مسموحا أن تقفل صيدا على نفسها، وأن تُغلق بواباتها على الآخرين مهما كان الثمن.
أيضا، لم ينس الصيداويون بفقرائهم وأغنيائهم وتجارهم وحرفييهم، النتائج المدمرة لذلك الاعتصام الذي فرض على المدينة حصارا اقتصاديا ومعيشيا خانقا لأكثر من شهر من الزمن، وهي لم تبرأ بالكامل من انعكاساته السلبية. ويعرف الصيداويون أن أسواق بديلة نشأت خلال تلك الفترة على حساب أسواق صيدا، في صور والنبطية وبنت جبيل وشحيم وبرجا وغيرها، وهي لا تزال متأهبة لتكون بديلا دائما في حال اضطراب حبل الأمن في عاصمة الجنوب.
من هنا تبدو مسؤولية فاعليات صيدا أساسية في توفير الاستقرار الدائم للمدينة وأهلها وجيرانها، ومصلحتهم تقضي بالتحرك السريع لإزالة الهواجس ووضع حد لكل المحاولات الرامية الى النيل من استقرار مدينتهم، كي لا يضطر غيرهم الى القيام بهذه المهمة، اذا ما تمادى البعض في حفلة الجنون على حد وصف كبير عقلاء صيدا الشيخ ماهر حمود.
وفي هذا الإطار، يتحمل تيار «المستقبل» بالذات المسؤولية الكبرى في هذا المجال، اذ لا يخال عاقل أن آل الحريري يرغبون في قتل مدينتهم على الرغم من بعض الخطاب السياسي والاعلامي الذي يفتقر الى الحكمة.
ثمة مجال بعد للعقل والحكمة قبل أن تحترق صيدا مرة أخرى. وثمة مكان غير صيدا وزواريبها لنيل الشهادة من أجل كرامة الأمة.

تحية الافتتاح