13‏/08‏/2012

«دولة الجلابيط»

واصف عواضة
 الجمعة 11 آب 2012 السفير
لا يبالغ مسلسل «الغالبون ٢» الذي تعرضه قناة «المنار» خلال شهر رمضان الحالي، في تظهير «دولة الجلبوط» التي حكمت الجنوبيين خلال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان. وحدهم الجنوبيون الذين ذاقوا مرارة الاحتلال طوال اثنين وعشرين عاما، يعرفون جيدا «فضائل» هذه الدولة عليهم، صغارا وكبارا، شيوخا ونساء. وقد جاء «الغالبون» هذه السنة ليدغدغ جروحهم التي لم تبرأ بعد.و«الجلبوط» هو اللبناني عبد النبي بزي، أحد أشهر العملاء إبان الاحتلال الاسرائيلي، وهو شخصية مهووسة بالقتل والدم والتعذيب. أرخى لحيته طويلا وأقسم ألا يحلقها إلا في بيروت بعد احتلال لبنان وتصفية المقاومة، لكن هذه الأخيرة لم تحقق له أمانيه، فاصطاده المقاومون قنصا في العام ١٩٩٤ على الحاجز الذي أذلّ عليه كرام الناس، ولحقه عملاء آخرون من أمثال حسين عبد النبي وفوزي الصغير وعقل هاشم وغيرهم.
في «دولة الجلبوط» لم ينس الناس حاجز بيت ياحون بين تبنين وبنت جبيل، حيث مارس هذا الرجل وأعوانه كل صنوف الإذلال على العابرين، من إهانات وتجبر وفرض خوّات، حتى ان الكثير من أبناء الشريط الحدودي اعتصموا في قراهم وفضلوا الاعتزال في منازلهم على الهوان، وفرغت بعض القرى من أهلها وتهاوى عدد أهالي بنت جبيل الى ثلاثة آلاف وهي بلدة الأربعين الفا.في «دولة الجلبوط» صار الناس ينامون وعيونهم مفتوحة خشية المداهمات الليلية التي كانت تمارس، فيعتقل الرجال والنساء على السواء وينقلون الى «مركز الـ١٧» الشهير على مدخل بنت جبيل الشمالي قبل شحنهم الى معتقل الخيام.
في «دولة الجلبوط» صار العلم نادرا وباتت المدارس مراكز عسكرية ومعتقلات، بعدما أجبر طلابها قسرا على الانخراط في جيش سعد حداد وانطوان لحد، وإلا باتوا معتقلين أو هاربين من هذا الجحيم.في «دولة الجلبوط» صارت الخوّات والرسوم والضرائب غير الشرعية ضربا من المعاناة المعيشية للجنوبيين الذين كان عليهم ان يوصلوا الليل بالنهار لتحصيل قوتهم.في «دولة الجلبوط» ما من أم إلا وخافت على صبية ربتها على الشرف، من ان تحلو في عين متسلط فيجبرها على الزواج عنوة أو يزجها في المعتقل، أو يصب عليها الكاز ويحرقها حية كما فعل أحدهم مع ابنة عمه في ساحة البلدة.
في «دولة الجلبوط» حصل الكثير الكثير مما يجهله أهل لبنان الآخر، ومما تعجز عن تدوينه أمهات الكتب، حيث يقارن الجنوبيون اليوم بين زمن مضى من الاحتلال وزمن المقاومة ودولتها المزعومة، وهم يأملون من شركائهم في الوطن الذين لم يعرفوا «دولة الجلبوط» ان يعذروهم على تمسكهم بـ«دولة المقاومة» بانتظار ان يشعروا ان دولتهم المفترض ان تكون، صارت واقعا ملموسا يحميهم من غدر الزمان.في «دولة المقاومة» يشعر الجنوبيون أنهم أعزاء كراما أحرارا ينامون ملء جفونهم، مطمئنين الى صبيانهم وبناتهم، يزرعون ويقلعون ويعمّرون الدور والقصور على الشريط الشائك دون خجل أو وجل، يسهرون الليل متنقلين بين مدنهم وبلداتهم وقراهم لا يعترض طريقهم معترض، اللهم إلا حواجز الجيش اللبناني التي صار بينهم وبينها إلفة ومودة واحترام متبادل لم يألفه أهل الجنوب من قبل.
بالتأكيد يريد الجنوبيون دولة «الدولة العادلة الراعية الحامية» التي تصون كرامتهم وتمنع عنهم الضيم وتردع العدوان. هم يفتشون عن هذه الدولة منذ أمد طويل فلا يجدونها. لذلك هم متمسكون اليوم بـ«دولة المقاومة» لأنهم يرفضون العودة الى «دولة الجلبوط» و«أفضالها»، ولن يعودوا أيا كان الثمن، يؤسفهم ويحزنهم جداً ان شركاءهم في الوطن لا يتفهمون حالهم وأحوالهم ومشاعرهم بعد نهر الدم الطويل الذي صرفوه من أجل الخلاص من «دولة الجلبوط»، آملين أن يبعد الله عنهم «جلابيط» هذا الزمان.

06‏/08‏/2012

دفاعاً عن أهلنا في البقاع

واصف عواضة
لا يستغربن أحد أن ينبري أحد للدفاع عن زرّاع «الحشيشة» في شهر رمضان المبارك، من دون أي مصلحة مباشرة، لا تجارة ولا تعاطيا ولا «تسطيلا»، وانما لوجه الله تعالى وهو الغفور الرحيم. فهؤلاء الفقراء الذين لم نوفر لهم مهنة شريفة إلا الوعود طوال أكثر من نصف قرن من الزمن، يستحقون أن نقرأ في كتابهم لمرة واحدة بصورة جدية.
نحن نعرف جيدا ان «الحشيشة» حرام، زراعة وتجارة وتعاطيا، وقد صدرت فتاوى في هذا الشأن من كبار العلماء والمجتهدين والرهبان، سنّة وشيعة ومسيحيين، وحظرتها القوانين الوضعية في كل دول العالم، إلا لأهداف طبية خالصة وضمن حدود معينة وضيقة. ومع ذلك، ثمة من يتقي الله ويعرف حدود الشرع ويقرأ قوانين العقوبات جيدا ويدري مضار الحشيشة ثم يزرعها ويتاجر بها، فهل هذا من باب الترف ام انه من باب الحاجة وغياب البدائل الشريفة؟
منذ اكثر من خمسين عاما تكافح الدولة اللبنانية كل عام زراعة الحشيشة، ومع ذلك لم تستطع الوسائل الأمنية والعسكرية والقضائية وضع حد لهذه الزراعة، حتى في عهد «الوصاية السورية» حيث بلغ التشدد أقصاه في هذا المجال. وكل عام يسقط العديد من القتلى أو الجرحى مدنيين وعسكريين، في عمليات المكافحة والاحتجاجات التي دخلت هذا العام عصر الاعتصامات وقطع الطرق بعد إطلاق النار على القوى الأمنية وتخريب الجرارات العاملة في عملية المكافحة، وهو ما حدا بوزير الداخلية مروان شربل للتوجه أمس الى منطقة اليمونة في بعلبك لمفاوضة مزارعي الحشيشة وتقديم الوعود لهم بالتعويض. فلو لم يكن الوزير، وهو العسكري العتيق والخبير، مدركا للمشكلة من كل جوانبها لما أقدم على مثل هذه الخطوة مع أناس هم بحكم القانون خارجون عليه.
إلا ان الحديث عن التعويض الموسمي للمزارعين لا يحل المشكلة، فهو كخطوة أحادية سيشجع الناس أكثر على الزراعة في العام المقبل. وعليه يفترض ان يقترن بخطوات تؤمن البدائل الدائمة عن هذه الزراعة الممنوعة بحيث لا تكون شبيهة بالخطوات السابقة التي لم تسمن ولم تغن من جوع. فالزراعات البديلة التي اعتمدت في السابق لم تحقق الهدف المطلوب في غياب الخطط الزراعية المنطقية التي تؤمن بالدرجة الاولى المياه واستصلاح الاراضي البور التي تحتل مساحات واسعة في منطقة بعلبك ـ الهرمل، إذ لم يعد مقبولا ولا منطقيا ان تعاني هذه المنطقة من شح المياه وفيها من الينابيع ما يغذي اكبر نهرين في لبنان، وهما الليطاني والعاصي، فضلا عن المياه الجوفية التي تفيض عن الحاجة.
ان مجلس الوزراء المجتمع اليوم في بيت الدين، يفترض ان يقف بجدية أمام هذه المشكلة ولو لمرة واحدة. وليس كثيرا ان يخصص لها جلسة طويلة تضع الحلول البديلة موضع التنفيذ تحت شعار «إنماء منطقة بعلبك ـ الهرمل»، وهو ما يطالب به أهل المنطقة ونوابها ووزراؤها منذ أمد طويل، والا فلا ينتظرن أحد القضاء على هذه الآفة عن طريق القوة. فالحكمة الكريمة تقول ما ذهب الفقر الى بلد إلا وحل الكفر معه، وهؤلاء الفقراء الذين يزرعون الحشيش بالكاد يحصّلون قوت عيالهم، لان المستفيدين من هذه الآفة في عالم آخر.
ذات يوم مضى كانت الدولة تشن حملة على مزارعي الحشيشة، فوقف الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين على المنبر وقال بغضب، مخاطبا المسؤولين بالقول: «أطعموا هؤلاء الفقراء.. وإلا فاتركوهم».
مرة اخرى اليوم: «أطعموهم.. وإلا فاتركوهم».

تحية الافتتاح