28‏/08‏/2018

دراسة دستورية لوزير العدل سليم جريصاتي حول تشكيل الحكومات




دراسة دستورية لوزير العدل سليم جريصاتي حول التكليف الحكومي



     إنّ هذه المسألة أثارت راهنًا، في معرض تأليف الحكومة المنتظرة، بعض المواقف السياسيّة والمقاربات الطائفيّة التي لا ترتكز إلى أيّ مسوّغٍ ٍ علميّ مجرّد من الأهواء وموضوعي، كأنّ هذه المسألة تنتقص من صلاحيّات رئيس الحكومة المكلّف، في حين أنّ هذه المسألة تتعلّق بتكوين سلطة دستوريّة محوريّة. المنطلق أنّ الدستور لم يحدّد صراحةً مهلة زمنيّة لتسمية رئيس الجمهورية الشخصية المكلفة بتأليف الحكومة او مهلة لتأليف الحكومة الجديدة بعد تكليف رئيسها، وبالتالي لم يحدد الدستور مهلة زمنية لممارسة الحكومة صلاحياتها بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال نتيجة استقالتها او اعتبارها مستقيلة وفقا للمادتين 64و69 من الدستور، في حين ان الدستور ذاته حدد مهلة زمنية للحكومة بعد تأليفها كي تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة، اذ لحظت المادة 64 فقرة (2) ان على الحكومة ان تقوم بواجبها الدستوري هذا "في مهلة ثلاثين يوما من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها".
من العودة الى النصوص الدستورية، نرى انها:
- تلحظ صراحة مشاركة رئيس مجلس الوزراء والوزير او الوزراء المختصين رئيس الجمهورية في التوقيع على مقرراته، ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة او مرسوم قبول استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة حيث يوقع رئيس الجمهورية منفردا، او مرسوم تشكيل الحكومة ومرسوم اصدار القوانين الذي يتطلب كل منهما توقيع كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء من دون سواهما كي يصبح نافذا (م 53و54)؛
- تعتبر ان الحكومة المستقيلة او المعتبرة مستقيلة (المفهوم ذاته) لا تمارس صلاحياتها الا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال (م64 ف 2)، مع ما يعنيه ذلك من تقييد السلطة الاجرائية.
- تنص على ان رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن وساهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدة شعبه وسلامة اراضيه (م 49)، وتخصه دون سواه بقسم يمين الاخـلاص للامـة والدستـور (م 50)، ولا تولي اي مرجعية اخرى، غير الرئيس ورئيس الحكومة المكلّف، اي صلاحية بموضوع تأليف الحكومة، عملا بمبدأ فصل السلطات.
أما في ضوء مقدمة الدستور المستقاة حرفيا من مبادىء اتفاق الطائف، يتبين ورود مبادئ ثلاثة ذات صلة بموضوع البحث الحالي، اولها ان الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة التي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية (الفقرة د) ما يفترض لزوما وجود تلك المؤسسات وممارستها عملها بصورة دستورية كاملة وصحيحة. وثانيها ان النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها (الفقرة هـ) ما يفترض ايضا لزوما وجود مثل هذه السلطات وممارستها عملها بصورة دستورية كاملة ومتكاملة ومتوازنة وسليمة. وثالثها ان لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك (الفقرة ي) ما يفترض ان لا يظل رئيس السلطة الإجرائيّة في موقع تصريف الاعمال او في موقع الجنين في مرحلة التكليف من دون ان تكتمل بالتالي مكونات السلطة الدستورية التي يرئسها. ينهض عن الفقرة "ي" المذكورة مبدأ استمرارية الحياة الوطنية المشتركةPrincipe de continuité de la vie nationale الذي يسمو مبدأ استمرارية المرافق والسلطات العامة والذي يفترض انها قد نشأت صحيحا كي تعمل لما فيه الصالح العام.
لذلـك، أرى انه من غير الملائم دستوريا ايضا اغفال اي افق زمني للشخصية المكلفة كي تبادر الى التأليف، وبالتالي استمرار حالة تصريف الاعمال بالمعنى الضيق التي تقيّد السلطة الاجرائية وتخلّ بالتوازن بين السلطات، من دون الذهاب الى تحديد مدة زمنية عن طريق القياس، كون الدستور لم يلحظ، كما اسلفت، اي مهلة للتأليف، وليس في الامر غرابة او فرادة لان معظم الدساتير في الانظمة البرلمانية الديموقراطية العريقة لم يلحظ مثل هذه المهل. شهد لبنان اكثر من سابقة في اعتذار شخصيات عن التأليف (كالرؤساء تقي الدين الصلح وصائب سلام ورفيق الحريري وسعد الدين الحريري)، كما شهد فترات طويلة ومتفاوتة للتأليف من دون ان تقوم الشخصية المكلفة بالتأليف بالاعتذار.
يبقى السؤال: ما العمل في هذه الحالة وهل يجوز ان تبقى البلاد والعباد في ظل حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيّق، لا سيما اذا كان لبنان يمر بمرحلة حساسة حيث التحديات على اكثر من صعيد؟ هل ان الامر خاضع فقط لضوابط معنوية او اخلاقية او شكلية،أو حتى قانونية كمثل ما يسمّى "الموافقات الإستثنائية"، فيكون الجميع في حالة اسر في انتظار افراج الشخصية المكلفة تشكيل الحكومة عن حالة يستوي فيها عمل السلطات؟
ان حل هذه المسألة لا يكون الا بالالتفات الى دور رئيس الجمهورية وموقعه حاميا للدستور وحافظا المصلحة العليا للوطن في استقلاله ووحدة شعبه وأمنه وسلامة اراضيه، بحيث يعود له ان يجري تقويما للمأزق الناجم عن التأخير في التأليف ويفرض الحلول التي يراها مناسبة، بما فيها الطلب من الشخصية المكلفة ان تأخذ تصورا او توجيها او معطى ما في الاعتبار تذليلا للعقبات وتمهيدا للتأليف، طالما ان توقيع مرسوم التأليف يعود في النهاية الى الرئيس، وصولا الى الاعتذار عن التكليف، حتى إن كُلّفت مجدّدًا الشخصيّة ذاتها في معرض الإستشارات النيابيّة، بالأكثريّة ذاتها أو سواها تحرّرت من الأثقال والشروط والشروط المضادة التي أعاقت التأليف أولاً بأوّل، هذا إن وجدت إلى ذلك سبيلاً أو رغبت في ذلك.
يمكن رئيس الجمهورية ان يتسلح في موقفه اعلاه بمجموعة من الاعتبارات المتساوية في الاهمية، نذكر منها:
1- ان رئيس الجمهورية ينتقل من حالة التلقي في مرحلة التكليف بفعل الاستشارات النيابية الملزمة الى حالة التلقف في مرحلة التأليف حيث يمارس حينئذ الصلاحية الأهم التي ناطها به دستور ما بعد الطائف. لا نبالغ في القول أن تلك الصلاحية هي صلاحية واجبة دستوريا، اذ أن المادة 53 (فقرة 4) من الدستور تنص صراحة على أن رئيس الجمهورية هو الذي يصدر مرسوم تشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء.
2- ان الشخصية المكلفة تشكيل الحكومة، التي تعجز عن اقتراح تشكيلة على رئيس الجمهورية، مهما كانت طبيعة العقبات، انما تصبح في حالة مفترضة من اعادة نظر نواب الامة في الثقة بها التي عبّروا عنها عند تسميتها في معرض الاستشارات النيابية.
3- لا تستطيع الشخصية المكلفة ان تعوض عجز التأليف بالتصريف، اي ان تستكين الى حكومة مستقيلة تصرّف الاعمال بالمعنى الضيّق، فتمدها بمسوغات الحياة الى اجل غير مسمى، وتحول بالتالي دون استيلاد سلطة دستورية مكتملة الأوصاف والولاية.
4- لا تستطيع الشخصية المكلفة ان تستنفد، بقرار منها، فترة السماح التي يستفيد منها كل عهد رئاسي في مقتبله او الثلث الأوّل منه، لا سيّما بعد انتخاباتٍ نيابيّة أفرزت ما أفرزت من أكثريّة مختلطة وأقليّة مختلطة في مجلس النواب، وذلك قبل بدء عملية التآكل والاستنزاف، او تقلّص انتاجيا الولاية الرئاسية المحددة في الدستور، فتتطاول سلطة غير مكتملة على رئاسة الدولة المؤتمنة على الوطن والشعب.
5- يتفق اصحاب الرأي القانوني السليم على ما يسمى بالمهلة المعقولة délai raisonnable سواء في القانون العادي او في القانون الاداري بالرغم من خلو النصوص الوضعية من اي تحديد لمفهوم المهلة المعقولة، ذلك ان المحاكم سدت هذا الفراغ القانوني عند مقاربتها هذه المسألة الواقعية في ضوء كل حالة معروضة عليها قبل ان تخلص الى اعتبار ان ثمة خروجا عن المهلة المعقولة او لا. يستحضرني هنا قولٌ للدكتور خالد قباني، عضو المجلس الدستوري ووزير العدل سابقاً، والعضو الأفعل في ما كان يُسمّى "لجنة العتّالة" في الطائف، أي لجنة الصياغة، قرأته في صحيفة "الأخبار" عدد أوّل أيلول 2009: "الدستور لا يحدّد مهلة زمنيّة لرئيس الحكومة المكلّف، لكن إذا عدنا إلى المبادىء العامّة التي أقرّها الإجتهاد الإداري سواءً في لبنان أو في فرنسا، فإنّه إذا لم تحدّد القوانين والدساتير مهلة معيّنة لاتخاذ تدبيرٍ مهمّ يتعلّق بالمصلحة العامّة، فالإجتهاد يرى أنّ هناك مهلة معقولة لاتخاذ التدابير على أن لا تكون إلى ما لا نهاية"!
هذا وقد اضحت هذه المهلة مسألة واقع (question de fait) ينظر اليها في ضوء معطيات كل حالة على حدة. ان المهلة المعقولة تجد مرتكزا لها في المعطيات الدستورية والواقعية التي افضت في شرحها اعلاه. الا انه يبقى ان المرجعية ليست محكمة او مجلسا قضائيا، بل رئيس الجمهورية شخصيا التي تتجمع لديه المعطيات التي تمكنه من اتخاذ الموقف الملائم في التوقيت الملائم وفي ضوء دوره وموقعه كما قسمه الذي لا يمكن ان ينفصل عن وسائل تمكين رئيس الجمهورية من الالتزام به، والا كيف يمكن محاسبة الرئيس بحجة مخالفة القسم والدستور؟!
6- بالاضافة الى ما سبق، يمكن تركيز مفهوم المهلة المعقولة على مبادىء عامة ارتكز عليها الاجتهاد في القانون المقارن، في مسائل تتعلق بصورة خاصة بحقوق المتقاضين.
نذكر من هذه المبادئ المبدأين التاليين:
أ‌- مبدأ حسن الادارة Principe de bonne administration: المقصود ان السلطة، كل سلطة دستورية كانت او ادارية او قضائية او امنية، لا يحق لها عند الفعل او الامتناع، ان تلحق الاذى بالبلاد والعباد، بل عليها ان تأخذ في الاعتبار احقاق الحقوق العامة والخاصة ضمن المهل المعقولة، والا انتفت هذه الحقوق، اذ كثيرا ما يرتبط الحق بموعد احقاقه.
ب- مبدأ الحق في الامان القانوني واحترام ثقة المواطن الممنوحة للسلطة بصورة شرعية Le droit à la sécurité juridique et le respect dû à la confiance légitime de l’administré:
اعتبر مجلس شورى الدولة البلجيكي، في قرار فريد ومعبّر ومتداول، ان مبدأ الامان القانوني وثقة المواطن بسلطته ينتهك عندما تمتنع سلطة مخولة باتخاذ قرار ما عن اتخاذه خلال مهلة زمنية تخرج عن اطار المعقول:
Les principes de sécurité juridique et de légitime confiance sont méconnus lorsqu’une autorité tenue de décider s’abstient de le faire durant un temps déraisonnablement long.
C.E., no. 67.981, 4.9.1997, TBP, 1998, p.229.
اما بدء احتساب المهلة المعقولة، فيقع بالتأكيد فور التكليف، حيث يبدأ تراكم التأخير في حال عدم التأليف، وتزايد الشكوك في امكانية التأليف وترسخ الاقتناع بالعجز، فيجري رئيس الجمهورية عملية تقويم لنتائج التأخير على المصلحة العليا للبلاد.
من الطبيعي ان يكون استنفاد المهلة المعقولة سببا لتدخل رئيس الجمهورية الحاسم لوضع حد لهذه الحالة المتأرجحة وغير المستقيمة من طريق المبادرة الى استدعاء الشخصية المكلفة تشكيل الحكومة وابلاغها ان المصلحة العليا لم تعد تحتمل التأخير في التأليف، واعطائها التوجيهات اللازمة لانجاز المهمة، حتى اذا لم يؤخذ بها، بادر الرئيس الى التمني على رئيس الحكومة المكلّف بأن يعتذر عن التأليف، مع الإبقاء على إمكانية إعادة تكليفه في معرض الإستشارات النيابيّة على ما شرحت، فيتحرّر من العوائق إن استطاع أو رغب، ما يزيد من إمكانيّة التأليف السريع والسويّ.
اما في حال لم تبادر الشخصية المكلفة تشكيل الحكومة الى التجاوب مع رئيس الجمهورية في شأن ما سبق، فلا مناص حينئذ من قيام رئيس الجمهورية بتوجيه رسالة الى مجلس النواب بهذا الشأن عملا بأحكام المادة 53 فقرة (10) من الدستور، وذلك مباشرة او بواسطة رئيس المجلس، الذي يبادر في الحالتين الى اتخاذ الاجراءات المنصوص عنها في المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي تمهيدا لانعقاده بغية مناقشة مضمون الرسالة الرئاسية واتخاذ الموقف او الاجراء او القرار المناسب بالأكثريّة العاديّة، كأن يصار مثلاً إلى حثّ رئيس الحكومة المكلّف على اعتماد المعيار الواحد في التأليف و/أو عدم احتكار فريق سياسي واحد لطائفة بأكملها في الحكومة و/أو إلتزام مبدأ العدالة بمفهومه الواسع عملاً بالفقرة "أ" من المادة 95 من الدستور.
يبدو أنّ الأمور بلغت مواقيتها وخواتيمها إلاّ أنه من المهمّ جدًا عدم إسقاط هذه الحلول بصورةٍ استباقيّة على ما سوف يحدث في موضوع تأليف الحكومة المنتظرة وعلى التسوية السياسيّة الكبرى التي يتمسّك كلّ عاقلٍ بها، مستعيدًا في ذلك مانشيت "النهار" الغرّاء بالأمس : العهد يهيّئ لخطوته" معاً... مع الحريري" إلاّ أنّه يبقى أنّ العبرة لمن اعتبر، وأنّ سيّد العهد يحتفظ بالمبادرة والخيارات.
وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال رئيس الهيئة الوطنية لحماية الدستور والقانون


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحية الافتتاح